(الخرطوم انثروبولوجيا المكان).. كتاب جديد

(الخرطوم انثروبولوجيا المكان).. كتاب جديد

كتب:بروفسيرابوالقاسم قور حامد

صدر حديثاً كتاب (الخرطوم انثروبولوجيا المكان)
للاستاذ والكاتب السودانى ابوعبيدة البقارى

مقدمة الكتاب :

الخرطوم أنثروبولوجيا المكان هو عنوان هذه المقاربة فى هذه الدراسة والمقدمة لمؤلف الاستاذ ابوعبيدة البقارى. يقع الكتاب فى نحو ثلاثمائة صفحة من الحجم المتوسط ، وغاية المقدمة هذه تسليط الضوء على النص الكامن خلف سطور الكتاب ، والذى يبدو للوهلة الأولى مجموع مقالات كتبها ونشرها المؤلف فى المجلات و الصحف السيارة السودانية فى الفترة 1983-2023 ، بيد ان المعنى الحقيقى لهذا الكتاب يكمن فى امكانية القارئ التعرف على الرابط بين كل هذه المقالات التى هى اصلا سلسلة من المعلومات والذكريات ، اذ فى الغالب الأعم مثل هذا النمط والاسلوب فى الكتابة يندر توفرة فى المكتبة العربية ، اذ تفتقر المكتبة العربية هذا النوع من تسريد الذات ، لذلك تقل كتب المذكرات فى عالمنا بينما يشيع نوع هذا الادب والاسلوب وبكثر فى الغرب.
فى الواقع ترجع معرفتى بالاستاذ ابوعبيدة البقارى الى وقت قريب حينما أصبحت عضوا مداوماً فى منتداه الشهير ( منتدى البقارى للثقافة والفنون ) فى بيت الشباب بالخرطوم 2، بالطبع يبرز اسمه فى الصحف ، وصورته على شاشة التلفاز السودانى وهذا هو السائد والمعروف لدى كافة السودانيين ، لكن عند الاقتراب من الاستاذ ابوعبيدة البقارى تجد نفسك امام شخص يمتاز بكافة خصائص الكتاب العظام ، والذين بلغوا شأواً عظيماً فى هذا الأمر . اذ تتميز شخصية البقارى بحساسية رصد عالية ، ومقدرة هائلة على تخزين المعلومات و اسماء الامكنة والشخصيات والانساب ثم استدعاء كل ذلك بتفاصيل دقيقة فى لحظة ما. بالاضافة الى كل ذلك فهو شخص مٌرتب فى كل شئ ، خاصة فى اداراة الزمن ، والدقة والأرشفة ، وهى كلها صفات من النادر ان تتوفر لدى السودانيين الذين تعودوا على التسيب التاريخى والمكانى. ويمكننى القول ان اكثر الخصائص المائزة للسيد البقارى هى الروح الانسانية ، والضمير الحقوقى. يرتبط البقارى بوطنة السودان ارتباطاً عضوياً.ومن المفارقات ان تجئ هذه المقاربة والسودان يتعرض لأبشع انواع حرب المدن مما اضطر مؤلف الكتاب ومعد هذه المقاربة اللجوء الى مصر وهم يشاهدون على مرأى من اعينهم كيف يتم نهب السودان تحت غزو مسلح تكاملت فيه رغبات قوى الشر وطنياً وأقليمياً ، ودولياً.
ترتكز مقاربة الخرطوم انثروبولوجيا المكان على المفاهيم العامة لعلم الانثروبولجيا الثقافية وهو العلم الذى يدرُس الانسان من حيث هو عضو فى مجتمع له ثقافة معينة ، وعلى هذا الانسان ان يمارس سلوكاً اجتماعيا متوافقاً مع سلوك الجماعة المحددة ، المحيطة به ، يتحلى بقيمه ، ومهتديا بنظامة . الا ان الانثروبولجيا الثقافية توفر امكانيات هائلة لدراسة الفعل الثقافى والحضارى للفرد فى للمجتمع المحدد وفى المكان المعنى .اذ فى الغالب الانسان كائن احتماعى /ثقافى ، فالثقافة بشقيها المادى والمعنوى هى المشهد السلوكى للانسان . ان البحث فى تاريخ تكَون هذه الثقافات والامكنة يعنى البحث فى ثنائية الانسان وجدله مع ما حوله من اشياء ، ودراسة كافة انواع التحولات السلوكية والثقافية تعنى كشف البنى المعرفية كمنتوج جدل الذات والموضوع.الانسان كذات وما حوله من موجودات ( الوجود)، لكل ذلك تسعى هذه المقاربة الى تشريح ودراسة هذا الجدل فى هذا السفر القيم للاستاذ ابوعبيدة البقارى.
لابد من الأشارة هنا بأن الدراسة اكتفت بنماذج محددة من جدلية الذات والموضوع وهى التحولات ، ومايمكن ان نسميه التحورات السلوكية.
يشير الكاتب فى صفحة 332 قائلا ” فى زمن ليس ببعيد كانت مراسم الزواج جميعها خطوبة وعقد قران ، وحفلة حنة والدخلة ورقيص العروس تكتمل فى الأحياء والمنازل . ثم تحول الأمر تدريجياً بانتقال مراسم عقد القران الى المساجد ” وهنا نرى التقاط اللكاتب لحالة التحول فى مراسم الزواج من المنازل الى المساجد ، بالطبع هذا تحول راكز على بنى قكرية وعقدية لم يشر اليها الكاتب لكن هذا ما تكشفه المقاربة . على سبيل المثال سيادة الثقافة الدينية فى مدينة الخرطوم ، وهى سيادة برافعة فكرية وسياسية وعقدية وهى كلها نصوص خفية لهذا السفر العظيم . فقد شهد السودان منذ نهاية القرن العشرين سيادة المشروع السياسى الاسلامى بمسمياته المختلفة وتحولاته المتعددة. لكن يحتوى النص الثقافى الكامن على اشارة اخرى وهى ذبول ثقافات أخرى ، فمن النادر ان تجد رقصة العروس فى مراسم وحفل الزواج بالخرطوم اليوم. آكد القول لم يغفل الكاتب عن محاسن مثل هذا التحول بقدر انه قد رصد بصورة ساخرة مثالب مثل هذا التحول السلوكى ويقول” وهذا شيئ طيب ان ترتبط بيوت الله ببداية الحياة الزوجية ولكن الأن اصبح فيها شيئ من عدم التنظيم والازعاج …وهو التزاحم نحو والدى العروسين للتهنئة حال انتهاء المأذون من مراسم عقد القران ويصعب الوصول اليهما لتقديم التهانى الا ( بالمدافرة ) وفى ذلك تٌحكى القصص ان الألاف تم نشلهم قى هذا الاثناء”
وفى مقال له بعنوان أيام ماضى الذكريات …ودهرنا ولى ، يستعين الكاتب بذاكرته الفتوغرافية لرصد التحولات فى امكنة الخرطوم وما اعتورها من تغير مفضياً الى سلوك و بنى ثقافية جديدة فيقول ” اتاحت لنا اذاعة ( ساهرون ) ( أف.أم 6و99 صوت الشرطة السودانية ، فرصة عبر برنامج ( صدى الذكريات) فى حلقات للتحدث عن الخرطوم القديمة اى معالم الخرطوم التى غابت ، وعن التسميات التى تحولت الى اسماء جديده’” ثم يذهب فى رصد تلك التحولات على سبيل المثال ” بنك باركليز للمستعمرات وما وراء البحار ، تحول الى بنك الدولة للتجارة الخارجية وفيما بعد سٌمى ( بنك الخرطوم ) …ثم بنك مصر الذى حٌول اسمه الى بنك الشعب التعاونى “…ويذهب الكاتب فى رصد التحولات فى اسماء الامكنة فيقول ” اما الأسماء القديمة للشوارع الرئيسية فى الخرطوم ايام الاستعمار البريطانى للسودان فكانت شارع نيوبٌولد تحول الاسم لشارع الحرية ، وشارع ونجت باشا تحول الى شارع الجمهورية ، وشارع اسماعيل باشا وتحول الى شارع البطل على عبد اللطيف وشارع الملكة فكتوريا تحول الى شارع القصر الجمهورى وشارع الدفتردار تحول الى شارع الملك نمر “ثم يذهب الكاتب الى تحول وتغير فى اسماء الصحف واماكنها فى تصوير بديع !
وفى مقال مترع بالذكريات و الشجن وفى لغة سهلة ماتعة بعنوان (حبيب تعال نتقادم) يرصد الكاتب بعض المظاهر الاجتماعية و السلوك الذى تلاشى تدريجيا فى رحلة التحول الحضرى للريف ، بالطبع هذا هو المشهد السائد ، فى هذا الكتاب يقول الكاتب “من الامثال الشعبية الرفيق قبل الطريق ، وهو من الأمثال التى نبعت من حياة المجتمع السودانى آنذاك ….لأن السفر كان فى معظمه بالدواب وأرض السودان الشاسعة كانت ترتع فيها الحيوانات المتوحشة منها والأليف ويكثر الدعت والدعت هو الثعابين والعقارب وماشابه ذلك فالرفقة اذن كانت مطلوبة وضرورية لأى مسافر ” ثم يشير الكاتب الى نقطة محورية ادت الى تغيير هذا السلوك فيقول ” ولكن عندما غنت الفنانة عائشة الفلاتية الاغنية الشهيرة سمسم القضارف غيرت مفهوم الرفيق قبل الطريق درءا للمخاطر وطول المسافة الى ( الحبيب تعال نتقادم نسير سوا ونتكالم “. وهكذا تضح تلك المساحة الواسعة التى يتحرك فيها الكاتب ملتقطاً عناصر التعيير السلوكى والتحولات ، فمعرفته بتاريخ وتطور الاغنية السودانية ، و الامثال الشعبية وكافة انماط التفكير المحلى للسودانيين وفر له حقلا شاسعاً لالتفاط الصور والنماذج المختلفة.
يحتوى كتاب الخرطوم انثروبولجيا المكان على العديد من المقالات التى ترسم لنا تاريخ الثقافة السودانية ، مستصحبة التحولات والتغيرات فى بنى المعرفة فى رحلة التمدت Urbanization ، تستبين ملامح شخوص ، وامكنة خرطوم ما بعد الكولنيالية فى هذاالسفر النادر ، الذى يعبر عن مقدرة كاتبه ابوعبيدة البقارى فى رصد ذاكرة الامكنة ، فالذى يقرأ هذا الكتاب يغنيه عن تلك التأريخيات الجافة ، والسرديات المملة فيجد نفسه سابحاً فى علامات الجغرافيا والتاريخ.
يحتوى هذا السفر على معلومات ومقالات القاب بعض لاعبى كرة القدم ، وعن ثورة الاتصالات فى مقال رائع بعنوان (تنويهات لأكثر من كوضوع ) .وقى مقال نادر بعنوان (الأنف الطويل المتحرك ) يصف فيه خركة 1976 التى عرفت بالمرتزقة ويقول ” ولكن آنذاك كنا على موعد مع شيئ أخر عرف بالتدخل الأجنبى وما اصطلح عليه بالمرتزقة وكان ذلك تحديداً فى يوم جمعة من عام 1976م وكانت الخرطوم والعاصمة المثلثة انذاك مليئة بالطرب والغناء والحقلات والسهرات التى تضم ما لذ وطاب اكلاً و شرباً وحلاوة ..الخ” .
هذه المقدمة ليست غير نذر قليل من محاولة البحث فى سفر الخرطوم اثروبولجيا المكان من منظور افثروبولوجى ثقافى ، وتعريف للقاريء لهذا الكتاب ، و بمؤلفه السيد ابوعبيدة البقارى
مع عاصف الحب والتقدير

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x