رائعة حردلويا بلدي .يا حبوب

رائعة حردلويا بلدي .يا حبوب


كنت قد كتبتها في كسلا في يناير 1972م بعد خروجي من سجن كوبر مباشرة وهي أول قصيدة اكتبها بالعامية السودانية ، وازعم إنني كتبتها مثل معظم شعري العامي (بلغة ثالثة) وسطية بين العامية السودانية الموغلة في عاميتها ، والفصحي الموغلة في فصاحتها ، وقضيت في كسلا ثلاثة ايام في ضيافة صاحب وقائد قطار كسلا الأكتوبري محمد جبارة العوض .

  • أطربتني كسلا بجمالها وجمال أهلها ومقام سيدي الحسن والقاش وتوتيلها والتاكا وسواقيها .. أو ليست هي (جنة الإشراق) علي حد تعبير الشاعر توفيق صالح جبريل ؟ وهكذا منحتني (مسدار عشان بلدي !!!) وظلت حبيسة درج مكتبي الي أن زارني وردي صباح يوم قبيل مهرجان الثقافة الذي كان قد استنه الدكتور اسماعيل الحاج موسي وزير الثقافة عام 1976م .. كان وردي قد جاء لوزارة الشؤون الإجتماعية التي كنت منتدبا فيها لأخذ شيك يخصه لقاء حفل أقامه للشهداء ، وجلس بجانبي علي يميني وفتح درج مكتبي ، ورأيته يأخذ من الدرج ورقا ويقرأ ثم يقول لي بعتاب شديد (بالله .. إنت صديق !!؟؟) فقلت : (ليه ؟) فقال علي الفور : (هذه قصيدة ملحنة جاهرة !!) ، وأخذ قلما وورقا وجلس علي كنبة ونقل القصيدة ، ونسي أن يشرب كوب الليمون الذي أمامه ونسي شيكه ، وخرج .. إتصل بي صباح اليوم التالي وقال : (لقد لحنت القصيدة وسأوقعها في نادي الفنانين مساء اليوم .. حتجئ ! فقلت (لا) . ببساطة لأنني لم اصدق ! واتصل صباح اليوم الذي بعدهـ وقال : (سأغنيها اليوم في المسرح القومي في مهرجان الثقافة .. حتجئ !) فقلت : (نعم سأجي فالحكاية بقت جد) ! وذهبت للمسرح القومي ، مساء ذات اليوم وغني وردي (يا بلدي يا حبوب ) فأجاد ، وجود ، وأطرب كعهدهـ ، وخرجت للشارع في طريقي للخرطوم فإذا بالناس في الشارع وفي السيارات يغنون مقاطع منها ، وأوقف وردي عربته أمام مدخل كوبري امدرمان ، وتوقفت الحركة ، ولم يتوقف إنشاد الناس لها ، وأقبل نحوي وهو يقول للناس المنتظرين في سياراتهم (يا أخوانا معليش .. عايز أدى الشاعر المجنون ده حاجة … !)
    وناولني شيئا وذهب لسيارته وانطلقنا نعبر الكوبري والناس يغنون (يا بلدي يا حبوب) . وصارت في سرعة البرق نشيد إنشاد كل السودانيين من الأطفال الي الشباب إلى الكهول ، وراحت لواري السودان تضرب في التيه والبيد شرقا وغربا وجنوبا وشمالا ، تحمل اسم (يا بلدي يا حبوب) في موخرتها ، وصارت الشغل الشاغل للإذاعة والتلفزيون وحفلات وردي في كل الليالي والمدن ، وجاءني الاستاذ احمد شامي (زعيم الحزب الشيوعي) (القيادة الثورية) أيامها ذات صباح وهو يقول لي (شد حيلك يا أبو السيد أمبارح كنت في قعدة بالثورة واسمعونا شريطا فيه نفس وأداء (يا بلدي يا حبوب) ولكن بكلمات مختلفة يقول مطلعها
    (يا بلدي يا منكوب
    يا الحاكمك (…..) حنتوب .
    وصدرت التوجيهات للإذاعة والتلفزيون بعدم إذاعتها أو بثها .. ولوردي بعدم غنائها في حفلات مذاعة علي الهواء ، لكن وردي غناها إستجابة لرغبة الجمهور في محفل مذاع ومتلفز في المسرح القومي ، وفي ذات الوقت كانت الإذاعية الكبيرة ليلي المغربي تبثها في برنامجها المسموع (نفحات الصباح) كثيرا . فصدر قرار بإيقاف جميع أغاني وردي من البث والإذاعة وإيقاف برنامج (نفحات الصباح) في الإذاعة ، بحجة أن الاغنية غير مجازة من لجنة النصوص ، وانهم معترضون علي كلمات مثل سروال ومركوب ! ولم يكن ذلك صحيحا ، فالقصيدة لوحة مرسومة ومصورة للشعب السوداني وسودانه العظيم بهندامه الجميل وقيمه السمحاء ، ونبله النبيل ، وجماله الجميل ، ولونه الأسمر والقمحي والأبنوسي .. وسجاياهـ التي هي من سجايا الأنبياء والأولياء والصالحين ، وقلت ومازلت أقول -رغم كل شئ- أننا أنبل الشعوب وبلادنا أغني البلاد بالمطمور داخل أرضها ، وإننا سادة الحضارة الأولى في الدنيا ، وليس في القصيدة سيرة (لرئيس قائد وملهم ولا سيرة لرئيس مؤمن !) ، فالشعب السوداني هو القائد والملهم والمهلم والمؤمن ..
    وهوجمت في بعض الصحف خاصة (الأيام) والتي كان يعمل فيها الاستاذ حسن ساتي بمقال كتبه رئيس تحريرها وقتئذ الشاعر عوض أحمد خليفة وقال فيما قال انه لم يشاهدني أبدا ارتدي الجلابية او انتعل المركوب منذ طفولتي والي يومنا هذا كمعشر أهل السودان …!
  • المهم طوردنا وردي وانا وحاول البعض الإعتداء علينا بالضرب ، ورغم ذلك كتبت مقالا عنيفا في صحيفة الصحافة أفضح فيه مؤامرة لجنة النصوص والذين هم وراء ذلك ، وكتب الراحل المقيم شريف طمبل مقالا بعنوان (حتي لا نقول .. ملعون أبوكي بلد ثانيا) ، وكذلك فعل الاديب صديق محيسي وآخرون وقال الشاعر محمد عبدالحي (إنها ‘عزة’ إن لم تكن أفضل منها !) .
  • وأخيرا ذهبنا وردي وأنا للدكتور الصديق اسماعيل الحاج موسي وزير الثقافة والإعلام في مكتبه وبعد حوار طويل وجه الوزير بإطلاق سراح اغاني وردي وإتاحة بثها وإذاعتها مرة اخري .
  • هذه بعض قصة (يا بلدي يا حبوب) والقصة إن اردنا روايتها كاملة طويلة وستطول !
  • اكتفي بهذا الآن وأزيد قليلا فأقول .. ليس وحدهـ حسن ساتي الذي حاول تجاهل إسم شاعرنا بلا جدوي ، فحتي تلفزيون السودان كتب مرة علي الشاشة (إنها من شعر اسماعيل حسن !!) لكنه سرعان ما صحح الإسم بعد إتصالات مكثفة منه .
  • وذلك وغيرهـ كثير … ولكنه لا يضيرني بكثير او قليل شئ .
    الخرطوم في 13 سبتمبر 2007م
    سيد أحمد الحردلو
    العمدة

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x