المشيخانية (٢/١)

المشيخانية (٢/١)

ألسنة وأقلام

د/ بابكر إسماعيل

مقدمة:
يقف السودان علي مفترق طرق بين سودان قديم ولّي ولن يعود تحكمت فيه أحزاب وجماعات ذات عقلية تقليدية تتشبّث بالماضي بكل تفاصيله من طموحات وتطلعات وأحزان وأحلام وآلام وثارات وصراع عبثي يقف فيه الكلّ ضدّ الكلّ ولا سيادة فيه إلا للفرعنة والتنمر والكنكشة والتكويش ..
وسودان آخر يتشكل بمخاض عسير ظنّه البعض نزوة ثورية عابرة ولكنّها كلّ يوم تغوص عميقاً في وجدان السودانيين رافضة للقيادات البطرياركية ومناهج السودان القديم البالي وقد اصطرع فيها معسكران يسعي كل منهما لتدمير غريمه بجدّ وعزيمة لا تلين .. حتي لو أدّي ذلك لهلاك الحرث والنسل.

الأحزاب المشيخانية:
وإذا نظرنا إلي أحزابنا السودانية لوجدنا علي رأس هرم قيادتها شيوخاً فانين قد بلغوا ريعان الثمانين من العمر ويرنون بثقة وثبات لولوج التسعين وأدناه قائمة قيادات أحزابنا:
اللواء (م)برمة ناصر (٨٤ عاماً تقريباً)
السيّد: محمد عثمان الميرغني (٨٦ عاماً)
الدكتور علي الحاج محمد (٨٣ عاماً)
السيّد محمد مختار الخطيب (٨٠ غاماً)
الرئيس البشير (٧٨ عاماً)

وتوفي الدكتور حسن الترابي عن ٨٤ عاماً
وتوفي الصادق المهدي عن ٨٥ عاماً وكلا الرجلين ترأس حزبه لنصف قرن أو يزيد.

هذا إذا علمنا أن أعمار قيادات ثورة أكتوبر ١٩٦٤ تماثل أعمار بعض قيادات تحالف قوي الحرية والتغيير الحاليين فقادة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم كانوا في أوائل العشرين ومنهم ربيع حسن أحمد وحافظ الشيخ وأنور الهادي وآخرون وكان الدكتور حسن الترابي الذي تحدّث في الندوة التي فجّرت تلك الثورة في الثانية والثلاثين وأمّ السيد الصادق المهدي جموع المصلّين علي أحد شهداء الثورة وكان في الثامنة والعشرين

كما أن نبيّنا محمداً صلي الله عليه وسلم قد توفّي عن ٦١ عاماً ميلادياً أنجز في ٢٢ عاماً منها رسالته وتبعه ربع سكّان المعمورة وكذا المسيح عليه السلام مضي إلي ربّه في عمر شابّ في الثالثة والثلاثين وتبعه قرابة ثلت سكان الأرض.

تحكّمت قياداتنا الشائخة في مفاصل السياسة السودانية منذ منتصف ستينات القرن الماضي ولا زالت قبضاتهم تضغط علي حلاقيم المستقبل الواعد.

مستجدات العصر ومستحدثاته خلال الإنقاذ:
أكبر تغيير حدث في البشرية عامة في الثلاثين عاماً الماضية هو ثورة الاتصالات التي بدأت بالهاتف الجوّال ثم الشبكة العنكبوتية والتواصل عبر الإيميل ثم ثورة الوسائط الاجتماعية جميعها من فيسبوك وواتساب وإنستغرام وكلوب هاوس الخ ..
وقد رأينا كيف أغتيل القائد الشيشاني جوهر دوداييف والمهندس الفلسطيني يحي عيّاش في أوائل تسعينيات القرن الماضي بتقنية تحديد الموقع (GPS) واستخدم الجيش السوداني هذه التقنية بعد عشرين عاماً من ذلك التاريخ والآن أصبحت هذه التقنية متاحة في كل هاتف محمول بمميزات متواضعة.

ومن التغييرات العالمية سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية التاريخ وتوقّفه عند الرأسمالية كما زعم أحد كبار مفكّريهم
واستخدمت المؤسسات الدولية لتأديب الدول المارقة (العراق وسوريا وليبيا والسودان وأفغانستان)
وقام الاتحاد الأوربي والاتحاد الإفريقي ونهضت النمور الاقتصادية في جنوب شرق آسيا وتخلت الصين عن آيدولوجيتها الشيوعية وبرزت قوة اقتصادية عملاقة
وأطّلت الحركات الجهادية برأسها وقد امتشقت حساماً مهنداً من عصر ربيع الإسلام الزاهي
ووقعت هجمات سبتمبر عام ٢٠٠١ وشنّت أمريكا وحلفاؤها حرباً لا هوادة فيها علي ما أسمته بالإرهاب
أُفقرت دول الجنوب وازدادت وتيرة الهجرة غير الشرعية إلي الاتحاد الأوروبي وتجارة البشر والهجرة بسبب اللجوء السياسي ..
واندلعت ثورات الربيع العربي.

وداخلياً هبّت ثورة الإنقاذ في العام ١٩٨٩ وجاءت بقيادات مستنيرة وخطط طموحة وشعارات برّاقة (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) وأقامت مشروعات وطنية كبري منها ثورة التعليم العالي (جامعة لكل ولاية) وربطت السودان بشبكة ألياف ضوئية وشبكة طرق وجسور وسدود مائية واستخرجت البترول وشجّعت تعدين الذهب الأهلي.
وتكونت قوات الدفاع الشعبي الذي أعان القوات المسلحة السودانية في حربها علي الحركة الشعبية وصُبغت تلك الحرب بصبغة الجهاد الذي تداعي له شباب الحركة الإسلامية وقدموا عشرين ألف شهيد وعشرات الألوف من الجرحي والمصابين مما أدّي لوقف حرب جنوب السودان التي استعرت منذ أغسطس ١٩٥٥ وحتّي اتفاقية نيفاشا في يناير ٢٠٠٥ الذي انفصل عقبها إقليم جنوب السودان وصار دولة مستقلة.
وأسّست الحكم الولائي (وهو فيدرالية محدودة) وقصّرت الظلّ الإداري بإقامة الحكم المحلي وأشركت فيه القادة المحلّيون.

وكذلك من الأحداث الهامة في الثلاثين عاماً الماضية مفاصلة الإسلاميين
وبروز العصبية القبلية وقيام مليشيات قبلية في دارفور، وحدوث مقتلة كبيرة بالإقليم أدّت لاتهام الرئيس البشير وبعض معاونيه بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية واستدعته محكمة الجنايات الدولية للمثول أمامها وتعرّض السودان للعقوبات الأممية إضافة للحصار الأمريكي وزادت بلادنا ضغثًا علي أبالتها..
وتكونت قوات الدعم السريع وهي قوات استندت في تأسيسها الأول علي قبائل دارفور العربية وكان الغرض منها صدّ هجمات حركات دارفور المسلحة التي تحتضنها قبائل الزرقة الإفريقية.
ثم أسندت إلي قوات الدعم السريع لاحقًا مسئوليات الردع ضد العصيان المدني والتظاهر السلمي في العاصمة وانتقلت رئاستها إلي العاصمة ثمّ لعبت أدواراً سياسية في إسقاط نظام الإنقاذ الذي رأت النور علي يديه ولم تألو جهداً في التنكيل بقياداته ومطاردة منسوبيه وانحازت قيادتها إلي الشباب الثائر وصارت جزءاً من لعبة توازن القوي إضافة لقيامها بأدوار إقليمية (حرب اليمن) ودولية (مكافحة الهجرة غير الشرعية إلي أوروبا).

كان شيخ الحركة الإسلامية في السابعة والخمسين من عمره عندما قامت الإنقاذ وكان نائبه الشابّ في الأربعين وأعمار جل قيادات الصفّ الأول للحركة كانت بين منتصف الثلاثينات إلي الستين وكان قلب الحركة النابض الشباب والطلّاب والمجاهدين وأخوات نسيبة ..
واستوعبت الحركة كثيراً من الشباب والقيادات الطلابية في دولاب الدولة .. وتوّلي فيها طبيب شاب (في منتصف ثلاثينات العمر) حقيبة وزارة الخارجية لأكثر من عشر سنوات
بعد استخراج البترول الذي صادف ارتفاع أسعاره عالمياً عمّت البلاد طفرة اقتصادية قادت إلي نهضة عمرانية وتنموية فتحت آفاقاً اقتصادية لكثيرين وأبواباً للاغتناء والتكسّب من المقاولات والإنشاءات التي عمّت البلاد وصاحب ذلك بعض ادعاءات التجاوزات المالية وشُيه الفساد المالي والإداري.

عانت الأحزاب التقليدية قبيل الإنقاذ وبعدها من انفضاض الشباب عنها و كانت معظم قواعد تلك الأحزاب التقليدية ومؤيديها يقيمون في الأرياف البعيدة والأقاليم النائية وبعض من مشائخ الطرق الصوفية وأتباعها..
ثمّ دار الزمان دورته وتحوّل المؤتمر الوطني رويداً رويداً إلي كيان أشبه بالإدارات الأهلية منه إلي حزب حديث حيث تمحور القرار حول رئيسه ورأس الدولة يدور حيث دار وتعطّلت أجهزة الحزب الشورية والتنفيذية وصارت تسبّح بحمد زعيمه الأوحد إلا قليل ..
وآل المؤتمر الوطني إلي ما يشبه حال تلك الأحزاب التقليدية التي ثارت عليها الإنقاذ.. وتلك الأيّام نداولها بين الناس

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x