الحقيقة والمصالحة .. ومنهج سيد أحمد خليفة

الحقيقة والمصالحة .. ومنهج سيد أحمد خليفة

تأملات
جمال عنقرة

“هذا المقال كتبته في الشهور الأولى لثورة ديسمبر قبل أكثر من أربع سنوات، ونشرته في صحيفة الوطن السودانية التي اسسها الراحل الأستاذ سيد أحمد خليفة في عهد الديمقراطية الثالثة، وكنت وقتها اتولي رئاسة مجلس إدارتها، وقبل قليل بعث لي الحبيب ابن الحبيب الدكتور امير سيد أحمد خليفة، بهذا المقال من الأرشيف، ولاني وجدته كأنه قد كتب اليوم، انشره ثانية، لعل ما حدث بعد نشره الأول من فظائع ندفع ثمنها الآن اهل السودان جميعا، لعله يجعلنا هذه المرة نقراه بغير ما قراناه به من قبل، ولعله يسهم مع جهود آخرين كثر في وقفة من أجل الوطن، فندرك ما يمكن تداركه”
كان لأخي وصديقي وأستاذي الصحفي الاستثنائي سيد أحمد خليفة نبوءات كثيرة في مجالات شتي، ويعلم كثيرون أن صلتي بالراحل المقيم طويلة وعميقة، ولها خصوصية تجعلها عصية علي السقوط، ولقد بدأت قبل أربعة عقود من الزمان كاملات، وكان وقتها ابنه عادل الذي صار نجما ساطعا، كان لا يزال طالبا في الثانوي العام، ودائما ما أذكر الحبيب عادل في اجترار ذكرياتي مع (أبو السيد) الحبيب أكثر من شقيقيه الحبيبين يوسف وأمير لعدة أسباب، منها أن عادل كثيرا ما يذكر هذه الصلة العميقة ويستشهد بها، ثم أنه كان الأقرب إلينا مع والده الراحل المقيم، فاهتمامه بالشأن العام بدأ باكرا، فكان عندما يأتي من المدرسة ينضم إلى مجلسنا قبل أن يبدل ملابسه، وكان يشاركنا الحوار والطعام، وكان يسعدني أكثر أنه كان كثيرا ما يناصرني الرأي عندما أختلف مع والده، وأذكر بعد سنوات من الغياب خارج السودان، عاد أبو السيد، ووجد عادل قد صار قريبا جدا مني، بل صار صديقا حميما، فقال لي ابو السيد مداعبا (إنت شكلك حولت صحبتي لعادل، وبطريقتك دي حتنتقل للأحفاد) ولم يكن عادل وقتها قد تزوج، ومرت الأيام ورحل عظيمنا سيد أحمد له الرحمة والمغفرة، و (العيال كبرت) وتعمقت صلتي مع ثلاثتهم يوسف وعادل وأمير، أسأل الله لهم الحفظ والصون، ومزيدا من النجاح، وشب أبناؤهم جميعا علي ذات الود الذي شاهدوه، وعايشوه، وصار تواصلي مع الأحفاد أحمد وعلاء الدين، وطه، والنوراني، وعادل مباشرا، في العام والخاص، وتلك واحدة من نبوءات سيد أحمد الخاصة التي تحققت.
ويوم أمس بعث لي أخي وابن أخي، الحبيب ابن الحبيب عادل سيد أحمد تعليقا مكتوبا علي مقالي الذي حمل عنوان (المدنية .. من أجل وطن يسع الجميع) وجاء في تعليق الحبيب عادل (الحل في الحقيقة والمصالحة
دعني أسير معك في نفس الإتجاه، مع إضافة مطلوبة.. حتي لا تكون محتويات حديثك عن المدنية، عاطفية،قد تندرج تحت غطاء (التجيير).. وفي مقامك لا أستطيع أنْ اقول (المُكر).. كما يرى آخرون، بحسابات المضارع الشَكي أنَّ جمالاً يُحسَب على (الجماعة)..!
أنا أعلم صدق نواياك،بشهادة مبادراتك، من لدن الشريف زين العابدين الهندي، رحمه الله.. وخلاف ذلك..فأنت من دعاة الوفاق الأوائل.
إضافتي، أن يكون شعار المدنية هو (الحقيقة والمصالحة)، على غرار ما حصل في جنوب افريقيا (إلغاء الأبرتهايد). لجنة الحقيقة والمصالحة
Truth and Reconciliation Commission (TRC)
عادل سيدأحمد)
ولما قرأت ما كتب عادل، مر أمامي شريط طويل من سيرة والده أخي الراحل المقيم سيد أحمد خليفة، ولنقف قليلا عند مشهد يوم الرحيل، وهو اليوم الذي كشف الله فيه حقيقة (أبو السيد) وأذكر في ذاك اليوم جلس بجواري صديقا كان يستغرب ويدهشه كثيرا سر تميز علاقتي مع الأستاذ سيد أحمد خليفة، وهو يظن أن ما يفرق ويباعد بيننا أكثر مما يجمع، ولعله كان يضع في ذهنه معركة سيد أحمد مع الإسلاميين والتي لم تهدأ أبدا، ولم تخمد نارها لحظة، ومع ذلك ظلت علاقتنا في تصاعد مستمر، وظلت هكذا متصاعدة حتى آخر يوم في حياته، وكما يعلم الجميع أنه في رحلته الأخير خلفني علي كل شئ، “الوطن” والوطن الكبير، والوطن الصغير في السجانة، وأبناءه في البيت وفي الصحيفة، ففي يوم الرحيل المشار إليه، التفت إلى صديقي الذي كانت تدهشه علاقتي مع سيد أحمد، وطلبت منه أن ينظر في هذا الجمع الذي لم يتخلف منه أحد، وجاءوا جميعا لوداع أبي السيد له الرحمة والمغفرة، وفي ذاك اليوم تجلت عظمة سيد أحمد خليفة، والذين يظنون أن عظمة سيد أحمد في تميزه الصحفي الذي صار به وحيد عصره، ولو كان الناس أكثر انصافا لأطلقوا علي حي (الصحافة) اسم سيد أحمد خليفة، أو علي أضعف الإيمان حي (الصحافة سيد أحمد خليفة) وللذين لا يعلمون، فإن حي الصحافة أطلق عليه هذا الإسم تخليدا لاسم جريدة الصحافة التي قادت المعركة التي ثبتت الحي، وكان سيد أحمد وحده الذي قاد هذه المعركة، ولقد لاحت لي فكرة الآن لتخليد (أبو السيد)، أتفاكر فيها مع أبنائه، ولكن ليس هذا المهم في حياة الرجل، وليس هذا هو السر الأعظم في تميزه، فالميزة الحقيقية لسيد أحمد، والتي جعلت منه إنسانا استثنائيا، هي سودانويته، فسيد أحمد كان نموذجا للإنسان السودانوي علي قول أستاذنا الراحل البروفيسور أحمد الطيب زين العابدين، فلم يكن سيد أحمد يخلط الأوراق، وكان شريفا وعفيفا حتى في معاركه، لذلك عندما مات، افتقده خصومه مثلما افتقده أصحابه، وأحبابه، وكثيرا ما أشرت إلى قصة خروجي إلى السعودية في أواخر عام 1984م، بعد المعركة التي نشبت بيننا بعض الإسلاميين الكردافة، مع حاكم كردفان في ذاك الزمان المرحوم الفريق الفاتح بشارة، وشملت معركته مولانا أحمد إبراهيم الطاهر، والأخ المرحوم إبراهيم محمد خير، وكان ذلك قبل قيادة الرئيس الراحل المشير جعفر نميري المعركة الكبري ضد الإسلاميين، فكان سيد أحمد من أكثر الذين وقفوا معي، ولم يذكر قط ما بينه وبيننا من خلاف، فقط تذكر ما يجمع بيننا من روابط إجتماعية، وما كان يظنه في شخصي الضعيف من تميز مهني، وتولي تقديمي والشهادة لصالحي لدي صحيفة المدينة السعودية، وشهادة (أبو السيد) في (المدينة) لا ترد، ولقد فعل سيد أحمد هذا، وكنت قبله قد اتصلت بمن هو أقرب منه، ويجمعني معه أكثر مما يجمعني مع سيد أحمد، إلا أن هذا ترك كل ما بيننا من وشائج، منها زمالة الدراسة الأولية، والسكن، وهلم جرا، واستدعي الخلاف السياسي، ولا زالت عبارته ترن في أذني (نميري سوف يسقيكم من ذات الكأس التي أسقي منها الشيوعيين) ولكن سيد أحمد، غير.
منهج الراحل المقيم الأستاذ سيد أحمد خليفة، هو المنهج المفقود هذه الأيام، وهو المنهج المطلوب من أجل أن (نعبر وننتصر) فلا بد أن نطرح الخلافات التي بيننا جانبا، والحقوق لا تعطي، ولا تمنع بسبب الموقف السياسي، والقرب أو البعد من النظام السابق، ولا حتى الولاء له، أو معارضته، هي التي تكون سببا للثواب أو العقاب، فالذي أجرم يعاقب ولو ظل يعارض النظام السابق ثلاثين عاما، والذي لم تثبت عليه تهمة لا يجوز عقابه مهما كان ولاؤه للعهد السابق، والتقديم يكون بالكفاءة، لا بالولاء، وهذا ما كان يعيبه الناس علي النظام السابق، فلا يجوز لهم أن يفعلوه بعد أن صار لهم سلطان. والرحمة والمغفرة لأستاذ الأجيال المعلم الحكيم سيد أحمد خليفة الذي ترك ارثا من القيم والمعاني، واجبنا أن نحافظ عليها، ونعلي من شأنها، من أجل وطن يسع الجميع بإذن الله تعالي.
من الأرشيف

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x