ثورة ديسمبر .. الحكم بعد المداولة “٤”

ثورة ديسمبر .. الحكم بعد المداولة “٤”

تأملات
جمال عنقرة

ذكرت في المقال السابق أن الخطاب الذي ألقاه البشير في حدائق القصر الجمهوري مساء يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر فبراير ٢٠١٩م اختلف تماما عن الخطاب الذي اتفق عليه مع اللجنة الأمنية، وكان الإتفاق أن يعلن في هذا الخطاب استقالته من رئاسة وعضوية المؤتمر الوطني، ويصير رئيسا قوميا لكل أهل السودان، ويحل أجهزة الحكم كلها، ويشكل حكومة كفاءات وطنية غير حزبية تدير شؤون البلاد، وتشرف علي انتخابات عامة في العام ٢٠٢٠م، ولا يترشح في هذه الإنتخابات، ولكن المكتب القيادي للمؤتمر الوطني ضغط عليه، وأثناه عن ما اتفق عليه مع اللجنة الأمنية، وكان ينتظره الشعب كله حصادا لمسيرة الإصلاح والتغيير السلمي الديمقراطي التي شارك فيها كل أهل السودان، وقدم ذاك الخطاب الذي خيب آمال الجميع.
بعد هذا الخطاب نشطت كل أطراف العملية السياسية الداخلية والخارجية، كل حسب اجندته ومصالحه، وكان نشاط القوي الخارجية الإقليمية والدولية أكثر واقوي من النشاط الداخلي.
الفريق صلاح قوش لم ييأس من التغيير السلمي الديمقراطي الذي هيأ له ظروفا مناسبة، ولكنه يئس من أن يكون البشير طرفا اصيلا في هذا التغيير كما كان الحال قبل رضوخه لضغوط المكتب القيادي للمؤتمر الوطني، فكثف قوش من التواصل مع قيادات المعارضة، داخل المعتقلات وخارجها، وسهل دخول المتظاهرين إلى ساحة القيادة العامة ليعتصموا فيها، وشكل حماية للاعتصام حتى لا يتم فضه بالقوة.
وفي ذات الوقت نشطت قوي أخري لقيادة التغيير في غير الإتجاه السلمي، وهذه القوي ارتباطها بالخارج أقوي من الداخل، واستمالت من قوي الداخل مكونات حزبية ونقابية هشة، وغير متجذرة، وابرزت قيادات لم يكن لها وجود أصلا، ورعت الاعتصام رعاية شاملة، وصرفت عليه بسخاء شديد، واحكمت الحصار علي الحكومة السابقة احكاما شديدا.
اللجنة الأمنية، وتحديدا الدينمو المحرك لها الفريق أول أمن مهندس صلاح عبد الله “قوش” مدير جهاز الأمن اعتقدوا أن ساعة الصفر قد حانت، وأنهم يجب أن يستثمروا الفرصة قبل فوات الأوان، لا سيما وأنه قد برز إتجاه داخل الحكومة لفض الاعتصام يوم الخميس الحادي عشر من شهر أبريل ٢٠١٩م قبل الجمعة بيوم، والتي كان مقدرا فيها أن يتقدم السيد الصادق المهدي لإمامة المصلين في صلاة الجمعة في ساحة الاعتصام، واتفقت اللجنة الأمنية علي إسقاط نظام الإنقاذ، وازاحة البشير ومن معه من الحكم، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي لقيادة الحكم في البلاد لفترة محدودة تجري بعدها انتخابات يختار فيها الشعب من يحكمونه، فتم الإعلان عن ذلك، وتشكل المجلس برئاسة وزير الدفاع الفريق أول ركن عوض ابنعوف، وعضوية عدد من القيادات الأعلي في القوات المسلحة.
يبدو أن اللجنة الأمنية لم تقدر الموقف تقديرا سليما، فلم تقدر قوة المتظاهرين بعد أن يسرت ومهدت لهم الطريق للاعتصام أمام القيادة العامة، وبعد أن وجد المعتصمون من يقدمون لهم كل مطلوبات الحياة والترفيه، وغيرها في ساحة الاعتصام، كما يبدو أنهم كانوا يتوهمون أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو معهم قلبا وقالبا، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الحقائق غير ذلك تماما، فالاعتصام الذي كان لهم دور في صناعته خرج تماما من سيطرتهم، والقيادات المعارضة التي كانوا منسقين معها، سحبت اياديها منهم، والاخطر من ذلك كله، أن قائد الدعم السريع حميدتي، قلب عليهم، جمع قواته، وسحبها إلى أطراف العاصمة، ووضعها في حالة إستعداد قصوي، ورفض عضوية المجلس العسكري، كما رفض المجلس كله، والغريب أن منطقه للرفض تطابق مع منطق المتظاهرين، ومنطق السياسيين والنقابيين الذين كانوا طافحين في المشهد السياسي، الذين زعموا أن مجلس ابنعوف امتداد لحكومة الإنقاذ، مع أن أعضاء مجلس ابنعوف كلهم ضباط مهنيين تخرجوا من الكلية الحربية وتدرجوا في الرتب حتى وصلوا اعلاها، ومعلوم كيف صار حميدتي ضابطا، وكيف وصل إلى رتبة الفريق.
المجلس العسكري بقيادة ابنعوف فاضل بين الإستمرار في مشروع التغيير السلمي، واستكمال ما بدأوه، وبين المواجهات المحتملة عسكريا وشعبيا، لا سيما وأن التظاهرات الشعبية اشتدت أكثر من ذي قبل، وقوات الدعم السريع تهيأت للتدخل لغير صالح التغيير الذي قادته اللجنة الأمنية، وكان لقائد الدعم السريع حميدتي ونائبه شقيقه عبد الرحيم دور أساسي في تنفيذه، فاختار السيد ابنعوف أن يجنب البلاد إحتمال المواجهة، فتقدم باستقالته من رئاسة المجلس العسكري بعد أربع وعشرين ساعة فقط، عسي أن تطفئ الاستقالة لهيب النيران التي اشتعلت.
نواصل بإذن الله تعالى

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x