المؤتمر الوطني وقحت .. وجهان لعملة واحدة

المؤتمر الوطني وقحت .. وجهان لعملة واحدة

تأملات
جمال عنقرة

لم أجد حرجا في أن أجمع المؤتمر الوطني وقحت في شأن واحد، ذلك أن ما يجمع بينهما من علل سودانية راسخة وموروثة أكبر بكثير مما يظهر بينهما من فروق جوهرية، ووجه الشبه الأكبر أنهما ضيعا فرصا عظيمة علي السودان والسودانيين، وعلي كيانيهما، ولكن الذي وقفت عنده كثيرا هو أيهما أقدم علي الآخر في العنوان، إلى أن استقر الرأي عندي علي تقديم المؤتمر الوطني لعدة أسباب، أولها أن المؤتمر الوطني أسبق وأكثر في تضييع الفرص من قحت، ثم أن المسؤولية الأكبر في معالجة هذا الداء تقع علي عاتق المؤتمر الوطني وليس قحت، ذلك أنه أكثر وعيا وأكثر احساسا بالمسؤولية، وهو الأكثر فاعلية في كل السوح السودانية، وهذا يضاعف من مسؤولياته، ويعظم الأمل المعقود عليه.
وأكثر ما اتفق عليه المؤتمر الوطني وقحت، وأضاعا به فرصا ثمينة، أن كلا منهما توهم في مراحل عدة أنه بما تتوفر له من عناصر تمكين سياسي يمكن أن يستاثر بحكم السودان وحده دون كل أهل البلد الآخرين، وكانت فرصة المؤتمر الوطني الأولي في الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، فلما نجحت حركة الإنقاذ الوطني في ذاك العام وجدت قبولا عاما من كل أهل السودان تقريبا، ذلك أن مرحلة الديمقراطية الثالثة التي أتت الإنقاذ علي انقاضها كانت أسوأ فترة حكم مرت علي السودان، ولكنهم أضاعوها بوهم أنهم يمكن أن يحكموا البلد وحدهم، فاقصوا الآخرين ومارسوا قهرا شديدا لفرض ما يرونه، وقابلت المعارضة هذا القهر بعنف أشرس منه، وكان الإمام الصادق المهدي له الرحمة والمغفرة أول من حذر من عواقب القهر والعنف، واصدرت كتابا في في ذاك الزمان في العام ١٩٩١م، عنوانه “السودان بين قهر السلطة وعنف المقاومة”
وفي العام ١٩٩٦م تجددت الفرصة مرة أخري، ومعلوم أن في ذاك العام انطلقت مبادرة الشريف زين العابدين الهندي التي كانت تحمل اسم “مبادرة الحوار الشعبي الشامل” وليس لأني كنت طرفا أصيلا في هذه المبادرة، لكنها كانت من أعظم الفرص التي اتيحت لجمع صف القوي الوطنية السودانية، وتوحيد كلمتهم، ولكن ضيق أفق بعض الحاكمين، مع ضعف نفوس بعض رفقاء الشريف افرغوا المبادرة من محتواها، وانتهت إلى مجرد مشاركة في الحكم، قدمت لأفراد، ولم تقدم للوطن شيئا يذكر.
وتجددت الفرصة مرة أخرى في العام ٢٠١٤م عندما أقبلت كل القوي الوطنية الرئيسة علي الحوار الوطني الذي طرح مبادرته الرئيس السابق عمر البشير، ووقف معه كثيرون من قيادات حزبه، ومسك مقوده بقوة واقتدار الراحل المقيم الدكتور حسن الترابي، وباركه وشارك فيه معارضون من العيار الثقيل يتقدمهم السيدان الإمام الراحل المقيم السيد الصادق المهدي، ومولانا السيد محمد عثمان الميرغني، ولكن للأسف الشديد إن بعض الفاعلين في الحكومة وحزبها الغالب لم يتعاطوا مع الأمر بالجدية المطلوبة فظلوا يماطلون ويسوفون حتى انطلقت المظاهرات الأكبر في ديسمبر ٢٠١٨م.
وحتى بعد اشتداد المظاهرات لم تغلق أبواب الفرص، فتجددت مرة أخري مساء الجمعة ٢٢ فبراير ٢٠١٩م عندما احتشد قيادات السودان وزعماؤه في ساحة القصر الجمهوري ينتظرون خطابا تاريخيا من البشير يعلن فيه ما بشر به قرارات يخرج بها من المؤتمر الوطني، ويحل بها كل اجهزة الحكم الإتحادية والولائية، ويشكل حكومة كفاءات قومية وطنية، تدير دفة الحكم في البلاد إلى حين قيام انتخابات حرة ونزيهة، ولكن بعد إنتظار طال واستطال، خرج البشير بخطاب خيب كل الآمال، وكانت النهاية المؤلمة.
ثم إنتقلت الفرص بعدها إلى قحت، قوي إعلان الحرية والتغيير، فعلي الرغم من أن قوي الإعلان لم تكن صاحبة النصيب الأكبر في إسقاط نظام الإنقاذ، لكن الشعب كله تقريبا، وكل القوي السياسية الفاعلة، وكل مكونات الجبهة الثورية ارتضوا قوي إعلان الحرية والتغيير “قحت” ممثلا وحيدا للثورة والثوريين، ولكن، ومنذ اليوم الأول بدأ الذين في أيديهم الأمر من القحتيين في تطبيق سياسات التمييز والتفضيل، والعزل والإقصاء، وكانت بدايتهم في رفقائهم في قحت، فصاروا يتساقطون الواحد تلو الآخر، فانتهوا إلى أربعة فقط، ودخلوا في معارك لا طائل لها مع شركائهم العسكريين الذين اسقطوا لهم الإنقاذ ومكنوهم من كل شئ، ولم يبق لهم ما يراهنون عليه سوي الرباعية الخارجية والدعم السريع من الداخل لتمرير الإتفاق الإطاري الذي يريدون له تمكينهم من الحكم وحدهم دون غيرهم من قوي وأحزاب السودان الأخري خلف حليفهم حميدتي لفرض الإتفاق الإطاري بقوة السلاح بمباركة ودعم حلفائهم الخارجيين، ولما فشل حميدتي في ذلك، وغاب عن الساحة، حول جنوده المعركة من حرب ضد الجيش، إلى حرب ضد الشعب والبلد، ولم يمتلك القحتيون الجرأة لادانة ما يرتكبه الدعامة، ولم يجدوا غير شعار مائع يتكئون عليه “لا للحرب” وهو شعار لا يسمن ولا يغني من جوع، فخسروا حتى إحترام الناس لهم.
المؤتمر الوطني ومن خلفه الحركة الإسلامية اتخذوا موقفا مشرفا دعما وسندا للقوات المسلحة، وتقدم شبابهم صفوف القتال دفاعا عن النفس والأرض والعرض والمال، فعلا مقامهم عند أهل السودان جميعا.
القحتيون بعد أن خرجوا من البلد خروجا مهينا بسبب الحرب التي يحملهم كثيرون وزر انطلاقها، تجدد الأمل عندهم ثانية للعودة إلى الساحة مرة أخري تحت مظلات الحماية والرعاية الإقليمية والدولية.
وللأسف الشديد، وبعد كل هذه التجارب المريرة لم يعتبر بعض أهل المؤتمر، وبعض منسوبي قحت، فالشاطحون من المؤتمريين يعتقدون أن مواقفهم المشرفة في دعم القوات المسلحة، والدفاع عن الوطن تعيد لهم السيطرة على السودان من جديد، وكأن شيئا لم يكن. والواهمون من القحتيين يظنون أن الرعايات والحمايات الخارجية يمكن أن تشطب بجرة قلم كل ما ارتبط بهم من مواقف استقبحها السودانيون، وتجدد عندهم الأمل في أن تعود الكلمة لهم وحدهم دون غيرهم.
وأقول لهؤلاء واولئك أن الأزمة الأخيرة التي ألمّت بالسودان، ولم تكن تخطر علي قلب بشر، ووضعت البلد علي مهب الريح، لن يكون مقبولا لأحد السباحة عكس التيار، والسودان وطن للجميع، للمحسنين والمسيئين معا، والمرحلة المقبلة بعد وقف الحرب، لا مكان فيها لحزب، سواء كان قحتي، أو مؤتمر وطني، ولا عزل فيها لأحد، والمشاركة في الحياة السياسية في المرحلة الإنتقالية متاحة للجميع، وفي الانتخابات الحشاش يملأ شبكته.

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x