هرمنا !

هرمنا !

بالمنطق
صلاح الدين عووضة
هرمنا !
وهرم هو..
هرم من أجل لحظة تاريخية..

ولكنها حين تحققت لم يسعد بها مثل سعادة أحمد التونسي ذاك..
وهو نفسه كان اسمه أحمد..
فقد كان يتمنى أن يُكتب له طول العمر ؛ فمذ كان شاباً وهو يحب الحياة..
يحبها بمباهجها…وحسانها…وأسمارها…ودكَّايها..
وتحقق لابن منطقتنا – أحمد – ما أراد ؛ حتى بلغ من الكبر عتياً..
وطفق رفاق دربه يتساقطون واحداً تلو الآخر..
وهو على الدرب سائر ؛ لا يتوقف..
لا يتوقف حتى عند استراحاته المخصصة لالتقاط الأنفاس..
استراحة الأمراض…والأسقام…والوعكات..
ولكن الدرب بدا وكأنه بلا نهاية إلى أن انتبه إلى أنه أضحى بلا رفيق..
فقد مات أنداده جميعاً..
ولم يبق له من يؤنس وحشة مشواره..
وبدت الحياة من حوله غريبة عليه…وعنه…ومنه…عما كان يعشقه سابقاً..
فالأشياء لم تعد هي الأشياء ؛ ولا الأزمان والأشخاص..
فما عاد العمدة – مثلاً – هو الآمر الناهي وفقاً لما هو ممنوح له من سلطات..
وما عادت السواقي تسهم في سيمفونية الطبيعة..
تسهم بأنغام نأيها الحزين إلى جانب الخرير…والحفيف…والتغريد… والهديل..
وما عادت مساير الشَعر محفزاً من محفزات الشِعر..
من محفزات التغني بانسدال الليل على جبين القمر لحظة النهوض من الخدر..
وما عاد الدكاي يضاهي المشعشعات…شعشعةً..
مشعشعات تغزل في تماثلها لعين الديك أبو نواس وأمثاله..
وما عاد البوبلين هو الكساء الذي يحق لمن يرتديه أن يقدل في سوق الإثنين..
وأمسى يتمنى الموت الذي كان يكرهه..
يتمنى الذي طالما زجر كل ذاكر له في المجالس…والمساجد…وحتى المقابر..
بل وكره بسببه إبراهيم الكوبودار ؛ أي الناعي..
وبقدر مقته الشديد للموت – زمان – صار يحبه الآن..
وأخذ يتحدث كثيراً عن حيرته إزاء الذين يعشقون طول البقاء..
طول البقاء في الحياة كحالته سابقاً..
أو طول البقاء على الكراسي كحال الطغاة حالياً..
ونعني الطغاة الذين عاصرهم في زمانه ؛ لا زمان عمر البشير من بعده..
فالطغاة جميعهم من طينةٍ واحدة ؛ يعشقون البقاء..
ويغمغم بكلمات من أغنية ترثى لحال من لم يبق له من الدنيا سوى الذكريات..
حلو الذكريات…ومر الذكريات..
أغنية نوبية في قدم النخيل…والدكاي …والسواقي..
وما كان يعلم – وأنَّى له – أن المعنى ذاته ورد في قصيدة لشاعر جاهلي..
فقد قال زهير بن أبي سلمى من قبل :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
وشبهه بعض مثقفي شباب البلدة بالديناصور..
ديناصور انقرض بنو جنسه ؛ وبقي وحده بعد انتفاء مقومات البقاء لأشباهه
وما زال كبار السن ببلدتنا يذكرون لحظاته الأخيرة..
وتحديداً ما استشعره من سعادة حين صادف اللافتة أخيراً في دربه الطويل..
لافتة غيبية لا تراها الأبصار إلا حين تشخص..
وقد كُتب عليها – بمداد حبرٍ سري – عبارة من كلمتين فقط : انتهى المشوار..
وكاتب هذه السطور هرم هو نفسه..
هرم من أجل لحظة تاريخية يرى فيها ديمقراطية لا تكفل طول البقاء لرئيس..
ثم هرم من أجل لحظة أخرى..
وهي أن لا يرى فيها جماعة قحت يسعون إلى سلطة تتيح لهم طول بقاء..
بلا انتخابات…ولا ديمقراطية…ولا حتى قواعد شعبية..
فإن تحقق لهم ذلك – لا سمح الله – فسوف يأتي زمانٌ نرى فيه طولين..
طول بقاء في السلطة دونما شرعية..
وطول أصبعٍ لجعفر حسن سيزداد طولاً ؛ ويهدد به دونما حياء..
ولحظتها سيطول – بالنسبة لنا – انتظار لحظة تاريخية..
وسنصرخ بالمفردة التي جهر بها أحمد التونسي ؛ وهمس بها أحمد بلدياتنا:
هرمنا !.

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x