سطور حزينة لنهاية دكتور سمير بالمتحف الطبيعي شهيداً في حوض المورفالين

سطور حزينة لنهاية دكتور سمير بالمتحف الطبيعي  شهيداً في حوض المورفالين

لم يكن سمير من اولئك الذين يهتمون بالسياسة كثيراً ولم يكن شخصاً منظماً سياسياً، لكنه كان مُلماً بتعقيدات المَشهد السياسي في البلاد الكبيرة، ومثل عامة الناس يحملُ على عاتقهِ ومن موقعهِ المغمور عِبء الدولة ومحاولة ترميمها، ويقاومُ سنواتها العِجاف بأبتسامتهِ العجولة وبشاشته التي تَهش الحزن المتراكم في ملامحِ الكادحين.

(1)
قبل يوم من الحرب كان الدكتور سمير عائداً من نادي الخريجين بدراجته الهوائية التي لا تُفزع العصافير، من يصادِفه في الشارع او يلتقي به دون سابق معرفة لا يساوره أدنى شك بأنه الآن بمعية رجل خمسيني من الطبقةِ الوسطى او موظف في أحد مصالح الدولة، وهو كذلك في الواقع يشبه الناس العاديين في كل شيء يحب الدُعابة والضَحك، يستمتعُ بتناول الطعمية في أذّقة الشوارع المتفرعة من شارع البلدية، وينحدرُ في المساء شرقاً للعبِ الورق او مشاهدةِ مباراة في كرةِ القدم مع صديقه “عصمت أبوبكر” في أستراحة المجلس الثقافي، ثُم يعود في العاشرة مساءً الى غرفتهِ الصغيرة في متحف التاريخ الطبيعي، حاله مِثل كل باحثٍ ينامُ حيث يعمل، ويأكل حيث يعمل، ويأمل حيث يعمل أن لا تفزعَ ضحكته العصافير؛ كان يحاول جمع بعض العينات من صندوق العقارب الزجاجي ولا تزال سماعة الهاتف بين كتفهِ وأذنه اليُسرى، يضع العينات في إناء من القصدير ثُم يضعهُ في الثلاجة، يذهب إلى صندوق الأفعى الأفريقية المخططة النادرة وربما الأخيرة، يضع سماعة الهاتف جانباً هذه المرة، يدخل بعض الطعام بهدوء وعناية عبر الفتحة الصغيرة أعلى الصندوق، ويواصل مكالمته، كانت تطلب منه زوجته “أحلام” أن يطلب من أحد أصدقائه الإعتناء بحيوانات المتحف في الفترةِ المقبلة، حتى يتسنى له قضاء أطول فترة ممكِنة معهم في المنزل وكانت تُخبرهُ بأن الأطفال يشتاقونَ إليه ويسألون عن موعد عودتهِ، أنهى سمير مكالمته بعد أن وعد أحلام بالعودة الى المنزل بعد عشرِ أيام وقال لها أنه يحبُها، ورغم بعد المسافة بينه وأحلام إلا أنه استطاع تحديد إتساع أبتسامتها في تِلك اللحظة!

الدكتور سمير باحث وأستاذ في الجامعة الوطنية الأفريقية وأحد الذين قضوا معظم حياتهم بل كرسوها هناك بين قاعاتِ التدريس ومعمل الزُولوجي “علم الحيوان” او في أدغالِ أفريقيا وسواحِلها أحياناً، كان مُلماً بمجالهِ وكان مرجعاً لكل طلابه، وكان العالم بالمتحف ونواحيهِ وصديقاً لحيواناتهِ وزوارهُ، والعارف بكل الحيوانات والحشرات هناك وأعمارها والأماكن التي جُلبت منها، يعرفُ السلحفاء الكبيرة مورو منذُ أمها التي ماتت عندما حشرت جَسدها المُتحجر القديم بين أسطوانة الأمونيا وقفص الأصلة الصفراء، كانت مورو الأم حرة تتجول في المتحف وكانت أقدم حيواناتهِ وأكثرها حِكمة، ويعرف الأفعى الطرشاء سَابا وهدوئها، كان يختبر صبرها وسكونها الممل الطويل عندما يرشها بالماء في نهاراتِ تموز فترتعش وتتموجُ كَجديلةٍ كانت له بمثابة صديقة عوضاً عن صديقتهِ الجاحِدة، تلك التي كلما رّشها بالمياه الصديقة رشقتهُ بالنيران الصديقة!
وكان يدركُ خطورة عقارب الشمال الثلاثة اللواتي يتسكعن في صندوق الزجاج ولا يبخلن بسمومهم الفتاكة، ويعتقدُ أن في نظرات التمساح أجاك نرجسية ونوايا غامضة او بقايا حُزن مخضرم من البحر، وكان سمير يحبُ العصافير، لكنهُ يحبُ أن لا تفزعَ العصافير أكثر.

كان متحف التاريخ الطبيعي بِرمته ثروة لا تُقدر بثمن، حيث جمعت فيه أعداد هائلة من الحيوانات بغرضِ الدراسة وتوطين صناعة الأمصال المُضادة للسموم والزيفانات في أفريقيا كان سمير يصحو دوماً على صوت العصافير في ردهة المتحف، او على الجَلبة التي تصنعها القردة في الجزء الأمامي من المتحف والمطل على حديقة الجامعة، لكن في صباح الخامس عشر من أبريل في ذلك العام المشؤوم، نهضَ سمير مفزوعاً والعصافير أيضاً، ونهضتْ صباحات الخرطوم المُنتصرة والعنيدة مهزومة ومهزوزة بفعلِ دوي المدافع وأزيز الطائرات الميغ والكومرات التي تنقل الجُنود، لقد كان يرى الدخان يتصاعد من كل الأتجاهات والشوارع تضج بالجنود والجنجويد، سمير لم يكن من اولئك الذين يهتمون بالسياسة كثيراً ولم يكن شخصاً منظماً سياسياً، لكنه كان مُلماً بتعقيدات المَشهد السياسي في البلاد الكبيرة، ومثل عامة الناس يحملُ على عاتقهِ ومن موقعهِ المغمور عِبء الدولة ومحاولة ترميمها، ويقاومُ سنواتها العِجاف بأبتسامته العجولة وبشاشته التي تَهش الحزن المتراكم في ملامحِ الكادحين، ذلك الحزن النتن والقهري، الذي يلازمهم كما تلازم القمامة الخرطوم، الخرطوم التي كلما لفظت من بطنها صَديد الجُروح والقروحِ القديمةِ لتستريحَ، تبول في فمها العساكر وتغوط الجنجويد.

(2)
النازح كمن يمشي على الصبار، كمن يصبرُ مازحاً وينزاحُ نحو العدم، النازخُ من يخرج من الوطن الى العدم، من لا يعدمُ في الوطن ولكن يُعدم فيه الوطن.

مرت عشر أيام كاملة ولم يبارح سمير المتحف، ولازم الفشل كل الجهود التي بذلت في سبيل إخراجه، لأن شارع المتحف كان بمثابة خط تماس، ورغم عدم وجود أي جندي هناك إلا أن الكثير من القناصة من الجانبين كانوا قد نصبوا أسلحتهم في المباني القريبة من الشارع ولم يمر ظل إنسان او طيف من هناك إلا وإخترقتهُ رصاصة، لقد فشلت أيضاً كل الوساطات التي قام بها أصحابه الذين أتصلوا ببعض القادة الميدانيين من الطرفين والذين تربطهم بهم ثمة علاقات إجتماعية وزمالة لكن دون جدوى، في الواقع لم يكن سمير وأصدقائه يجرون كل تلك المحاولات من أجل إخراجه هو فقط، ولكن أيضاً من أجل إخراج ونقل بعض الحيوانات الى مكان آمن وأمداد تلك التي لا يمكن إخراجها لأسباب عديدة بالطعام والماء حتى لا تموت جوعاً وعطشاً.

في اليوم الخامس عشر من الحرب نفدت كل أطعمة الحيوانات والطيور والحشرات والتي كان سمير يتشارك الممكن منها معهم ليحافظ على حياته حتى لا ينقرض، وأيضاً فسدت الكثير من العينات الموضوعة في ثلاجة المعمل المركزي بالمتحف.
وفي تلك الفترة بالتحديد أنقطع تواصل سمير بالعالم الخارجي نتيجة لعطل في بطارية هاتفه بسبب تذبذب التيار الكهربائي وعدم إنتظامه وضعفه وأنعدامه أحياناً.

(3)
في الخارج كانت الحرب قد تمددت رُقعتها الجغرافية وشملت مناطق عديدة، وأثبتت الأيام أن نار الحرب التي أشتعلت يصعب إخمادها بين ليلة وضحاها، لكن في دواخل سمير اليابسة من فرط الجوع مازال يرتعُ بعض الامل بأن ينتهي هذا الكابوس قريباً، ما جعله يتمسك بالأمل هي أحاديث الناس العاديين، الذين كانوا يقولون في أيام الحرب الأولى أن الحرب لن تستمر اكثر من أسبوع وربما ساعات وستنتهي قريباً، لدرجة أنهم كانوا يوصون الناس بعدم الخروج من منازلهم، لكن كل ذلك لم يحدث، ليس هناك أسوأ من ذلك أن تعيش دون أن تعلم مصير الأخرين، كان إدراك سمير التام بحقيقة أن الكثير من الناس لابد أنهم ماتوا في الخارج وربما أفراد عائلته وأصدقائه أيضاً يعمقُ جراحاته، ويجرحُ أعماقه؛
مرت الأيام وسمير يتمسك بأمله الذي أصبح ضئيلاً كجسده، ورغم أعتقاده القوي بأن أيمانه لن يضمر قط إلا أن اليأس قد تسرب الى دواخله عندما بدأت بعض كائنات المتحف بالنفوق، وكانت الرائحة التي تفوح في المتحف نتيجة لتحللها وتعفنها تعمق أحباطه المزمن، كان يشاهد بأم عينيه أحلامه ومشاريعه التي يشاركه فيها الكثير من العلماء والباحثين والمهتمين الذين بذلو فيها ربيع حياتهم تتحطم وتتلاشى الى الأبد.

(4)
أسوأ ما في الحرب أنها مريبة للحد الذي يجعلك غير مؤهل للتفكير حتى في غدك، أنت رهين اليوم فقط وأحتمال أن تموت قبل أن تستوي الفكرة في رأسك وارد، الأسوأ من ذلك كله أنك لا تستطيع توقع الطريقة التي قد تموت بها ولا تسطيع تحديدها، أي أنك لا تملك رفاهية أختيار الطريقة التي ستموت بها وأين وكيف ومتى، لكن الثابت في النهاية أنك ستموت من الداخل او الخارج، وإذا لم تغادرك الروح ستخرج منها أنت وترحل.

لم يتوقع الدكتور سمير في أقصى إحتمالاتهِ أن المطاف سينتهي به لأكل حيوانات المتحف ليحيا هو، وأن يصبح أخيراً أول طبيب بيطري يأكل سلحفاة في متحف المدينة، لكنها غريزة البقاء وأكثر ما أحزنه أنه اضطر أيضاً لشواء الافعى الأفريقية النادرة والأخيرة مستخدماً جهاز التعقيم الحراري، كان سمير يفعل ذلك مكرهاً ويكتب كل ما يحدث داخل المتحف ويكتب مصير كل حيوان في السجل الخاص به وكان يوثق كل تلك الأحداث بدقة في مذكراته لتكون مبرراً لما كان يقدم على فعله ولتكون أحد الشواهد المؤلمة لحربٍ عبثية لم ينجوا منها أنسان او حيوان.

عندما تضاعف عدد الحيوانات التي ظلت تنفق تدريجياً وبشكل يومي، لم يكن أمام سمير خيارات كثيرة او طرق لمعالجة الأمر لذلك أتخذ القرار الأصعب والأكثر مرارة من أكل الحيوانات وهو إطلاقها لتبحث عن قوتها ومشربها، وبما أنه لا يستطيع الخروج قرر أن تخرج هي، ورغم إدراكه بأنها يمكن أن تموت بطريقة او بأخرى إلا أنه حسم أمره بأطلاق حيوانات المتحف.

في صباح شاحب فشلت فيه هدنة لم يعلم بها سمير كان قد بدأ بأخراج الحيوانات، حيث نالت العصافير حريتها الثانية وطارت نحو حديقة المتحف لكنها عادت مفزوعة عندما دوت المدافع وطارت جنوباً، زحف التمساح أجاك ناحية النيل كأنه يعلم الطريق إلى موطنه القديم بحكمته القديمة، وفي الطريق إلى الوطن دهستهُ مدرعة عسكرية في شارع النيل نالت من جسده وروحه، العقارب تسلقت سلة المهملات وهامت هناك، الأصلة الصفراء قطعت صلتها بالمكان وأنسحبت وهي تلوحُ بذيلها وهكذا ذهبت جميع الحيوانات، حينها تذكر سمير دامعاً أسفا تلك المقولة او النص الشعري “تظل الحديقة على ذمة الندى وإن طارت عصافيرها”.

(5)
الحربُ وعكة الأوطان، عكةُ الخرائط تحت أقدام التاريخ؛ إنزلاق الأشياء وتهدمها وتشتتها في لحظة واحدة، الحرب أن يخلع الجنود إنسانيتهم دون إستحياء ويستبيحون الحياة.

بعد خمسون يوماً من أشتعال الحرب وفي أثناء هدنة جادة أستطاع بعض أصدقاء الدكتور سمير الذين لم يغادروا المدينة الوصول إلى المتحف مشياً على الأقدام بعد معاناة شديدة في طريقهم إلى المتحف بسبب التفتيش والأسئلة المكررة التي يطرحها الجنود المرابطون في الإرتكازات، لكنهم وصلوا في النهاية الى المتحف ولم يجدوا سوى أطلاله ورائحة ما تحلل هناك من جثث الحيوانات، لكنهم وجدوا مذكرة سمير التي وضعها في طاولة غرفة الاستقبال غير أنهم لم يجدوه، تصفح أحد أصدقائه المذكرة ليجد أنه مكتوباً في نهايتها بخط ركيك “قد أستلقي في حوض “الفورمالين” إذا شعرتُ بأنها النهاية، لا يمكنني أن أدفن نفسي لكن بأمكاني أن أحافظ على جسدي من التحلل والتعفن وليس هناك مكان ملائم لفعل ذلك سوى حوض”الفورمالين” وكتب مقتبساً لحبيبته وزوجته” أحلام” التي يأمل أن تكون مازالت على قيد الحلم والحياة مقطعاً من قصيدة الشاعر محمود شعبان: ” يا حياة القلب قد طال إلى حبي حنيني وأنا وحدي فإن شئتي إلى حبي خُذيني، هذه دنياي مالي في الأسى ضاعت سنيني سئمتْ رُوحي حياتي فإذا مِتُ اذكريني”.
وضع صديقه المذكرة وركض مسرعاً نحو حوض “الفورمالين” الموجود في غرفة ملحقة بالمتحف ليجد صديقه غارقاً هناك.

درج الأطباء في المعمل على وضع الجثث في”الفورمالين” حتى يحافظوا على أنسجة الجثث من التحلل وحتى تظل محتفظة بشكلها وصفاتها المظهرية وملامحها، ورغم أن الدكتور سمير نجح في المحافظة على جسده من التحلل ونجح رغم أنف الحرب في أختيار الموضع الذي سوف يستلقي فيه بأرادته للمرة الأخيرة إلا أن “الفورمالين” لم ينجح في الأحتفاظ له ولأصدقائه الذين شاهدوه في ذلك المكان بأهم جزء منه وهو ملامحه التي تعكسُ جمال روحه، لقد فشل “الفورمالين” في أن يحتفظ لهم بتقسيمات وجهه وملامحه وأبتسامته العجولة وبشاشتهِ التي كانت تهش الحزن المتراكم في ملامح الكادحين.

كتب أحد أصدقائه قائلاً : ما حدث لسمير هو نُبذة قصيرة ومشهد واحد فقط من سلسلة طويلة لويلات الحرب ومحنها التي لا تنتهي، وسمير ليس سوى عينة عشوائية ومثال واحد فقط للمئات من الأشخاص الذين ماتوا جوعاً او عطشاً او غدراً، بقصد او بدون قصد، او ماتوا حزناً ونزوحاً، او في معتقلات الحرب او في المستشفيات ومراكز الأيواء بسبب نقص العلاج والغذاء او بسبب الخوف والهلع، وربما بفعل الصدمات الناتجة عن فقدان أحبائهم وممتلكاتهم، فسمير مثلاً مات على مراحل عديدة وتدريجياً، لقد مات عندما بدأت الحرب وعندما فقد تواصله مع أسرته وعندما فقد الآمل في النجاة ومات عندما أكل حيوانات المتحف وعندما أطلقها ومات عندما مات بعضها، ومات أيضاً عندما أصبح وحيداً، ومات عندما مات أخيراً.

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x