حسن فضل المولى يكتب :نعمات حمود .. غِياب الندى ..

حسن فضل المولى يكتب :نعمات حمود .. غِياب الندى ..

أول مرة رأيتها عندما استجبنا لدعوة كريمة من الصديق الوجيه ( عيسى آدم ) ، لمشاركتهم إحتفال الجالية السودانية بالإمارات بأعياد الاستقلال ، و كنت بمعية الأستاذ ( التيجاني حاج موسى ) ، و ( الأستاذ راشد دياب ) ، و ( الأستاذ عادل سيد أحمد ، و آخرين ..
و نحن نَؤمُّ ساحة الاحتفال ، أقبلت عليَّ بوجه طليق ، تعلوه ابتسامة كأنها مَوْلِد فجرٍ و اطلالة بَدْر ، فمنحتني إحساساً
و كأن وُدَّاً قد انعقد بيننا لسنواتٍ غِزار ..

و آخر لقاء كان ، و نحن نشارك الأخ ( هاشم محمد عمر ) أفراحه بصالة ( الفجيرة) بأم درمان قبل شهر تقريباً ،
و بعد أن بذلنا التهاني للعريس ، و أنا أجتاز الممر المخصص للنساء ، في طريقي إلى خارج الصالة ، إذا بي ألمحها تضيء كعادتها ، فكانت مفاجأة لي ، و كأني قد عثرت على ما هو أغلى من كنز ٍثمين ، فانفصلت عمن كانوا برفقتي ، و أسرعت نحوها ، و اتخذت مقعداً إلى جوارها ، لخمس دقائق ، وغادرتها لألحق بمن كانوا معي ، على أمل أن نلتقي قبل أن تُسافر ..
هذا آخر لقاء تَقَرُّ فيها عيني برؤيتها ،
قبل أن تمضي إلى ربها لتفجع قلوب مُحِبِيهَا بهذا الرحيل الصاعق المباغت ، و الذي عمَّ ما ألِفها من الأرجاء ، و أوقد في الحشايا نيراناً ليس لها انطفاء ..

( نعمات ) ..
لم تكن ( نعمةً ) فحسب ،،
كانت ( نعمات ) و ( نِعَم ) و ( أنْعُم )
و ( نعوم ) ،،
فأنعِم بها من نعمات ..
ندِيَّه ،،
و سخِيَّه ..
لو استوهبتها حياتها لوهبتك إياها بأريحية و عن طيب خاطر ، و لعل الكثيرين يمتنون لها بذلك ، فقد كانت يدها ممدودة بالعطايا ، و لسانها لَهُوج بذوب المحبة ، و فؤادها مُفْعَم بفيوض الوِداد و عذب التمَنِي ..

كانت لأهلها ظلاً ممدوداً ،،
و لذوي مَوَدتِها مورداً ملذوذاً ،،
و لنا كالشعاع ينفذ إليك من كل ناحية محموداً ..
و أنا ما رأيت أحداً يُقْبِل على الناس ، كل الناس ، و يَصِلُهم و يفتقدهم إذا غابوا ويحتفي بهم إذا حضروا ، كما كانت تفعل ..
ففي مُغْتَرَبِها ، جعلت من دارها ( مَضْيَفَةً ) لأهلها و معارفها
و صويحباتها ، فلا تكاد ( الدار )تخلو من
ظاعنين ، حتى يَحِل بها قادمون ،
و هي تقوم على خدمتهم بنفسٍ
راضية و قلبٍ سليم ..
و كنت كلما وطِئتْ قدماي أرضَ ( الإمارات ) تُسارع إليَّ ، حتى و لو أخفيت عنها مجيئي ، لكيلا تتجشم مشقة الحضور من ( الشارقة ) إلى ( دبي ) ، و هي في شُغلٍ شاغل ..

و هي على البعد كانت موصولة ، إذ كنت أتابعها و هي تَنْشَّرُ كالضياء في كثير من ( القروبات ) ،،
تُعزِّي ، و تهني ، و تَطْرَبُ ، و تُطْرِب
و تمزح ، و تُكابد ما يكابده الناس ،
و كأنها مُقِيمة بينهم ، و لم ينأى بها المَزَارُ و يلفها البعاد ..
و عندما تأتي إلى السودان ، في إجازة ، طالت أو قصرت ، تجدها تشكل حضوراً طاغياً ، إذ تجد من تقول لك : ( كانت معي نعمات ) ، و من يقول لك : ( ماشين لي نعمات ) ، و تذهب إلى حيث المسرات فتجد ( نعمات ) ،
و تغشى المنتديات فأول من يلقاك ( نعمات ) ، و تستعرض القنوات فَتَطِل عليك ببهاء من إحداها ( نعمات ) ..

و لِمَا رأيتُهُ من نشاطها الجم و اتساع علاقاتها ، فقد عرَضْتُ عليها أن تكون رَسُولاً ( لقناة النيل الأزرق ) ، في ( دولة الإمارات ) ، فأحسنت صنعاً ، و هي توافينا بكل جميل ينتظم جموع السودانيين ، و كل مشاركة سودانية مُشَرِّفة في مختلف الفعاليات الكائنة هناك ..
كانت تتفانى في إنجاز ذلك و إتقانه
و السهر عليه ، دون أن تُكَبِدنا مُقابلاً ،
قلَّ أو كثُر ، و نحن نعلم كلفة الإنتاج التلفزيوني ، من جهد بشري و معينات فنية ، و هو ما كانت تقوم به ، بما ملكت يداها ، و مما تيسر لها من علائق حميمة ، و سِيرةٍ محمودة ..

و لَمَّا بلغها مقالي : ( الجزلي .. و ما أدراك ما المذيعون ) كتبت إليَّ : ( عملت ليهو ربط بإعلاميات في مصر يستضيفوهُ ، يستاهل ، و أسي شلت كلامك الحلو ليهم ممكن يقروا شوية منو ، فأرجو أن تأذن لي ) ..
و هذا يُنْبئُ عن همٍ ظل يلازمها ،
و هو الترويج و التمكين لثِمار
و حصائد السودانيين ، في شتى ضروب الثقافة و الفنون ، أنى و جَدَتْ إلى ذلك سبيلا ..
و هي إذ تشغل وظيفة ( مسؤولة دائرة الإعلام الخارجي ) في ( وزارة الثقافة
بإمارة الشارقة ) فقد حَرِصَتْ على أن
تُهيِّئ موطئاً لبني قومها ، في كل منتدى و ملتقى للفكر و الثقافة و الفنون ، ينتظم ساحات ( الشارقة ) المُشرِقة بكل ألوان الاستنارة و المُثاقفة ، و قد
شهدتها ، و هي تسأل و تستقصى عن الأنسب للمشاركة في المنشط المُرتقب ، ثم ترتب لذلك ، و يصبح من حَظِيَّ بالمشاركة ، محل حفاوتها
و حُنُوِّها ، منذ أن يَصِل ، حتى يغادر سالماً غانماً ..

و نحن نبتهج بعيد الأضحى ، فقد حمَّلتْ تهنئتَها لي ضراعةً و اجفةً راجفةً ، و عندما عُدْتُ إلى قراءتها
و تدبرها ، بعد أن نعاها الناعي ، أيقنت أنها كانت تستشعر دُنُّوَ أجلها ، و هو مالم يكن بحسبان أحد إلا ( هيَّ ) ، فأرادت أن تستفرغ كل ما تجيش به روحها الوضِيئة ، من ضعف و تعلق
و انقياد و طمع في رحمة رب العباد ..
و هاكم ضراعتها :
( و في جموع السائلين أقف بأملي الخالص ورجائي الجمّ. أقلّب روحي في جلال التسليم وبرد اليقين ووعد الإجابة. وأترقب رحماتك الغَدِقة على صبرٍ متعب وعزمٍ خائب وسيرٍ متأرجح. أسألك كرامة الوصول وجبر العوض وثبات الفؤاد وسداد البصيرة. يا من لا يعجزه عسر الأمر عن فرج، ولا هوان الحال عن غَلَبة.
كل عام وانتم بخير وسعادة ) ..
و لكم أن تتأملوا ..

و إذا سُئِلت عن الذي يميزها ، فقل واثقاً :
( التعلُّق ثم التعلق ثم التعلق ) ..
فهي دوماً مَدِينة لأناس جميلين ،،
و رهينة لأزمان جميلة ،،
و شغوفة بأماكن جميلة ..
إذا اعتادت تمادت في تعَّودِها ،،
و إذا أقبلت لا تُدْبِرُ إلا و هي مُكْرَهَة ،،
و إذا ألِفَت ظلت على الوفاء لا يصرفها حتى صارف الموت ..
و من ذلك ، و أنا اسْتَغْرِق في بث هذه المشاعر الحرَّى ، علمت أن جثمانها سيصل فجراً على ( بدر للطيران ) ..
و أذكر أني يوم أن أثنيت على بدرٍ
بمقال كتبت إليَّ :
( ياسلام ( بدر ) تستحق هذه الحروف ،
و أنا كل مراتي بسافر بيها ، و أنا صديقة لها ، و ( أسامة عروة ) الذي يشرف عليها من ( الإمارات ) ، من أميز الرجال ) ..

و ( لما كان الموت نقَّاد و هو يصطفي الجِياد ) ، فقد استأثر بروحٍ ما عُرف عنها إلا الصفاء ، و النقاء ، و السعي بين الناس بما يُفرِحُ و تنشرح له صُدورُ القُرَناء ، و قد تجلى ذلك في هذا الحزن الذي تغَشَّى كل من آنس إليها و اقترب منها و خالطها ، فالكل مفجوع بفقد ( نعمات ) ، التي عاشت حياة قصيرة ، لكنها عريضة ، و سِعَت الكثيرين ،
و فاضت حُباً على الكثيرين ، و امتد نفْعُها إلى الكثيرين ، مما جعل فقدها مُزَلزِلاً للكثيرين ، و أنا واحد من هؤلاء الكثيرين ..
( فمتى يشتفي هذا الفؤاد المفجَّعُ
و في كل يوم راحل ليس يَرجِعُ
نميل من الدنيا إلى ظل مُزنَةٍ
لها بارِقٌ فيه المَنِيةُ تَلمَعُ ) ..

اللهم ، و قد جَعَلتَ الموتَ منتهى كل حي ، و ما من نفس إلا و هي ذائقة الموت ، فإن أحسَنَتْ فهي إلى نعيم ،
و إن أساءت فهي إلى جحيم ،،
نسألك أن تحشر ( نعمات ) في زمرة الذين أحسنوا ممن ،،
﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ ، صدق الله العظيم ..
و أفضل الصلاة ، و أزكى السلام ، على
سيد الأنام ، الذي خاطبه الله عز و جل بقوله : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) ،
صدق الله العظيم ..

و السلام ..
أم درمان ..
الأول من سبتمبر ٢٠٢٢ ..

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x