المنظومة التوحيدية والرؤية الأممية بين الترابي والمهدية

المنظومة التوحيدية والرؤية الأممية بين الترابي والمهدية

بقلم :السفير د. حسن عيسى الطالب
قدم الدكتور خالد لقمان تحليلا متوازنا في محاولة جادة لفهم الإتجاه التوحيدي الذي يعتبر الأساس القاعدي الذي يقوم عليه البناء الفكري والعقدي لمفهوم الإسلام التعبدي والشعائري عند الشيخ الدكتور حسن عبدالله الترابي، رحمه الله، والذي ظل يتبناه طيلة مسيرته الجهادية كمنظور تأصيلي لمفهوم قوله تعالى: ” إن هذه أمتم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” الآية ٩٢ – الأنبياء – وقد تزامن ذلك، بل ربما تأكد توثيقا بإصداره لجزئين من كتابه المسمى: ‘التفسير التوحيدي للقرآن’ ويتوضح فيه مقتضى مفهومه المقاصدي الذي ينحو إلى استفهام الاسلام كعقيدة شاملة، تستوعب كامل الحياة من تلقاء الكسب البشري للمؤمن: ” قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين” الآية ١٦٢ – الأنعام. كما أن المجتمع الإسلامي – وفق مفهوم الشيخ الترابي – يستوعب كافة أهل القبلة، مهما تفاوتت كسوبهم التعبدية، ودرجاتهم الإيمانية، طالما أنهم يتواثقون ويتوالون على شهادة التوحيد المؤهلة، والإيمان بالرسالة المحمدية الخاتمة، والتوالي تلقاء القبلة الواجهة، بالدخول الجمعي في حصن لا إله إلا الله. فمنهم المجتهد النابغ، والظالم لنفسه، والمتواضع المتقاصر في الجهد. ولكنهم جميعا منضوون تحت راية أهل القبلة، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ولعل هذا يتأتى من فهمه التوحيدي الشامل الجامع لفهم قوله تعالى: ” ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير” الآية – ٣٢ – سورة فاطر.
وبالتالي يتأتى تجميع الفعل والفاعلين في وحدة قاصدة وراشدة، تنشئ وتعزز التماسك الإسلامي الأممي المنشود الذي عناه القرآن.
ولقد ظل الفكر التوحيدي لدى الترابي منهجا قاصدا لتحقيق التوحيد الكلي في الجانب الحركي والتنظيمي، ونأيه عن الركون إلى أسر المسميات التنظيمية المقيدة لكثير من أهل الطوائف والمذاهب المقولبة على مقاييس مؤسسيها. ولذا كان رفضه القاطع الإنضواء والذوبان في الحركة العالمية للإخوان المسلمين، مما أفرز وقتها حالة جفاء فكري وانقسام تنظيمي في الجماعة الإسلامية الناهضة، فانفصل على إثره تيار الإخوان التقليدي بقيادة الشيخ المرحوم صادق عبدالله عبدالماجد وظل يتحرك تنظيميا بمسمى ‘الإخوان المسلمين’ وكان الشيخ صادق هذا ممن بايعوا مؤسس الحركة الإمام حسن البنا على الدعوة عندما كان طالبا يدرس في مصر.
تجلت حكمة الشيخ الترابي الحركية والتنظيمية ورؤيته التجديدية في سعيه القاصد لتحقيق الأهداف الكلية، والوحدة الجمعية التي يتحقق بها المراد الشرعي، ودون التقيد بالمسميات والكوابح الشكلية، وحتى إذا اقتضى الأمر الغاءها أو استبدالها وتجديدها. وذلك من تلقاء نشوء حركة الميثاق الإسلامي بعد ثورة ٢١ أكتوبر ١٩٦٤م والتي جمعت وقتها كافة أطياف النشاط الإسلامي الوطني في تلك الحقبة. وبعدها تحولت الرؤية التوحيدية للتوسع الأفقي فجاءت بمسمى الإتجاه الإسلامي، في أوائل السبعينيات؛ ثم تلى ذلك التحول الانضمام للجبهة الوطنية التي انضوت تحت لوائها أحزاب الأمة والوطني الإتحادي الديمقراطي والجبهة الاسلامية وهلم جرا، وكانت الجبهة الوطنية تهدف لحشد كل القوى السياسية الفاعلة لمقاومة نظام ٢٥ مايو ١٩٦٩م الذي كان وقتها مدعوما من أحزاب الشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب التابعين للعراق ومصر. إذ ابتدرت الدولة إثر الإنقلاب على حكومة السيد الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطيا، نشاطا محموما لإلغاء الجامعة الإسلامية، ومعاهد التعليم الإسلامي، وإلغاء القوانين التي تحكم بها المحاكم الشرعية في ما يسمى بالأحوال الشخصية. كما أجيزت قوانين اشتراكية التوجه والمغزى، تقضي بإلغاء الملكية الخاصة والفردية، ونشر مبادئ الاشتراكية عبر الحزب الأوحد الاتحاد الاشتراكي السوداني، فجرى تأميم ومصادرة العديد من الشركات الوطنية والأجنبية، وتم فصل الجنيه السوداني عن الغطاء الذي كان يوفره بنك انجلترا عبر الارتباط بالجنيه الإسترليني، مما أفضى لإجراء أول تخفيض لقيمة الجنيه السوداني.
وخلال هذه الفترة تمت مصادرة كافة الشركات الأجنبية التي ظلت تعمل في السودان، ومنذ دخول الحكم الانجليزي، مثل شركة متشل كوست، وشركة كونتو موخيلوس، وبنك باركليز والبنك العثماني، وبنك سيتي، وشركات عثمان صالح وشركات آل المهدي وغيرها.
ثم انتظمت المقاومة السياسية والعسكرية لنظام مايو وتعاظمت بعد أحداث الجزيرة أبا التي قصفها النظام المايوي بالطائرات، فقتل فيها نحو ألف من المواطنين وجرح عدة آلاف، ثم قتل الإمام الهادي المهدي، قائد الجبهة الوطنية، على الحدود في الكرمك، وهو يعتزم الهجرة بدينه ورجاله. ثم أعقبت تلك الأحداث الدامية مجزرة مسجد الأنصار بحي ود نوباوي بمدينة أمدرمان في مارس ١٩٧٠م.
وقد ظلت اليد الحكومية المايوية القمعية الباطشة تمتد ضد كافة الأحزاب السياسية الوطنية، ودون تمييز. فتم حلها بقرار جمهوري، وصودرت ممتلكاتها، ووضع كل الساسة في السجون، بما فيهم الزعيم اسماعيل الأزهري، رافع علم الاستقلال في يناير ١٩٥٦م، والذي مات في سجن كوبر بالخرطوم بحري، ولم يحظ بجنازة تليق بمقامه وباعتباره أول رئيس لحكومة ما بعد الاستقلال في الأول من يناير ١٩٥٦م. ولم ينج من السجن ولا القتل إلا من هاجر أو من اختار المنافي الاختيارية في دول الخليج وفي أوربا. فظل ذلك الوضع البئيس جاثما على كاهل المواطنين المتضجرين حتى اجراء المصالحة الوطنية في ٧ يوليو ١٩٧٧م والتي وقعت مع نظام مايو برئاسة الرئيس جعفر نميري والإمام الراحل الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة ورئيس الجبهة الوطنية، فتم توسيع المشاركة السياسية لتشمل الجميع.
وبعد انخراط الإتجاه الإسلامي في حكومة ما بعد المصالحة، كان من أكبر مكاسبه المبادئية والسياسية التحول التشريعي الاسلامي للسودان الدولة. فعبر تشكيل لجنة برئاسة الترابي باعتباره مستشارا لرئيس الجمهورية أوكلت اليها مهمة تنقية الشوائب القانونية المقحمة بالسطوة القهرية الاستعمارية، والمفاهيم المستوردة من مواد نافذة في القانونين الهندي والإنجليزي، والتي علقت بدستور السودان لفترة ما بعد الاستقلال، وكمخلفات ثقافية للحقبة الاستعمارية، التي ابتدرها الجنرال الذي قاد الجيش الغازي، هربرت كتشنر، وعززها من بعده السير ريجنالد وينقيت، الحاكم العام الاستعماري، الذي ظل يبذر نوى الإستلاب الثقافي، والاستغراب الاجتماعي والسياسي واقحام العلمانية اللادينية في الثقافات والمناهج الدراسية خلال الفترة من ١٨٩٩ – ١٩١٦م فتلقفتها النخب المؤدلجة من مثقفي المدن والحواضر الذين تولوا الحكم عقب الاستقلال وحتى عام ١٩٨٣م.
وكان مقصد بريطانيا الاستعمارية هو إلغاء القوانين الإسلامية وكافة الأحكام التي ترتبت عليها بعيد احتلال السودان وانجلاء غبار معركة كرري، واغتيال الخليفة عبدالله التعايشي في أم دبيكرات مع كل أعضاء حكومته، وإنهاء الدولة الوطنية الممثلة بالمهدية. ومنذئذ بدأ التحول الثقافي والقانوني بتمكين وتسلط النخب العلمانية المحلية المؤدلجة بالفكر الغربي.
بيد أن المفارقة هي أن القوانين التي ألغاها الجنرال كتشنر، وعززها من بعده السير وينقيت، هي القوانين الوطنية، النابعة من التراث الثقافي والعقائدي للشعب، والتي ظل يحكم بها القضاء السوداني المستقل منذ أكثر من ثلاثة قرون، من لدن السلطنة الزرقاء عام ١٥٠٤م، ومرورا بدخول الأتراك في ١٨٢٠م إذ تم في عهدهم إدخال المدونة القضائية، وهي بمثابة مذكرة تفسيرية للإجراءات والأحكام وتوضح العقوبات المترتبة على كل جريمة. إذ كانت السلطنة العثمانية في اسطنبول تطلب من كافة الدول التي تنضوي تحت ولايتها تطبيق الأحكام المستندة على الشريعة الاسلامية.
وعندما تفجرت الثورة المهدية تعززت سيادة لدولة الوطنية، وجرى تطوير عملي لمفهوم الدولة الأممية، والوحدة الإسلامية، وذلك عبر محاولات مد الجسور في فضاء العلاقات الخارجية، عبر توجهات الإمام محمد بن عبدالله المهدي الرامية لتحرير مصر من الغزو الإنجليزي الذي جثم عليها وتعاظم نفوذه بعد اعتقال قائد الثورة الوطنية المصرية أحمد عرابي في معركة التل الكبير عام ١٨٨٢م. وكانت مطالب عرابي تتمثل في إخراج الجيشين الإنجليزي والفرنسي من مصر، وتوسيع الفرص القيادية في الجيش والخدمة المدنية للمصريين الأصلاء بدلا من الأجانب الوافدين. وكذلك برز إبان فترة المهدية الإتجاه الأممي للتواصل مع الجوار الأقليمي كالحركة السنوسية في ليبيا، وفي خطاب المهدي الذي أرسله للقائد السوداني رابح ود الزبير، الذي خرج بجيشه المسمى ‘البازنقر’ من ديم زبير ببحر الغزال، مرورا بمملكة كانم برنو ثم استقر بإنجمينا عاصمة تشاد الحالية، وبسط سلطته على معظم المنطقة التي تشمل حاليا الكمرون وغرب وجنوب تشاد وأفريقيا الوسطى وحتى استشهاده مكافحا ضد الاستعمار الفرنسي الذي بدأ باقتطاع مناطق شاسعة في غرب ووسط أفريقيا، فأفضى ذلك إلى مقتل القائد الفرنسي الجنرال فرانسوا لامي على يد رابح في ذات المعركة التي استشهد فيها وذلك قبل نشوب معركة كرري بوقت قصير.
وكان جيش رابح حينها يعتبر الجيش الوطني الوحيد والأقوى في أفريقيا – بعد إثيوبيا – الذي يقتني كل أفراده الأسلحة النارية، ويقدر عددهم بنحو عشرين ألفا.
فمن تلقاء هذا الطرح يمكن فهم التفسير التوحيدي، وارتباطه بمفهوم الأممية الإسلامية، واقترابه من منظور الفكرة المهدوية التي استدعت العالمية في دعوتها، ومقارنتها برؤية الشيخ الدكتور حسن الترابي التي تنحو للداخل السوداني، بمكوناته المتنوعة ثقافيا وجهويا، ولكنها تجتمع على الاعتكاف في حصن العقيدة التوحيدية الشمولية.
هذه هي الرؤية التي يتبناها اليوم ويسير على هديها المؤتمر الشعبي ويطلق عليها ‘المنظومة الخالفة’.

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x