الرحلة الأخيرة الى بري الشريف .

الرحلة الأخيرة الى بري الشريف .

بقلم: السفير محجوب محمد عثمان .
التاريخ : 9/يناير 1982 م
الساعة تشير الي الرابعة عصرا وطائرة الخطوط الاردنية الملكية تبطئ بداية للهبوط علي ارض مطار (اثينا ) الدولي . راكبان بمقصورة الدرجة الاولي , اصغرهما شاب قوي البنية, موفور الصحة , يرتدي سترة داكنة وقد ظهر عليه القلق. اما الاخر فكان في منتصف العقد الخامس , ورغم مظهرالارهاق البدني الذى عليه , الا أنه استرخي هادئا , مستطرقا في نوم عميق لم يفق منه حتي علي نداءت ( المضيفة ) بربط الاحزمة والامتناع عن التدخين وهى تكررها بأكثر من لغة . كانت تلك عادته المحببة الي نفسه . لازمته لأكثر من ثلاثة عشر عاما قضاها متنقلا ومسافرا الي اركان الدنيا الاربعة ونسبة الامان حوله تتدني احيانا لدرجة الصفر. كان دأبه أن ينام حين يجد نفسه داخل طائرة تقلع به من مطار ( شارل ديجول ) أو (ميونخ ) , أو حتي عبر قارات ثلاث , الي سيول في جنوب شرقي آسيا . واحيانا كثيرة ينام وهو يركب ميني كاب , او تاكسي , يسير به عند الغسق , عبر احياء لندن مع سائق لا يعرفه , عبر دروب لم يألفها , وربما اكثر من ذلك في لاندروفر (ضهره حار) يبقي بداخله اياما في فيافي الصحراء الكبرى , عند واحات (تازربو ) (والطلاب ) و ( الكفرة) متجولا بين المعسكرات استعدادا لعمليات يوليو 76.
خرجا من المطار, وكان صاحبنا يعرف المكان ومثله كثير من مطارات القارة الاوربية كما يعرف باطن كفه . وما أن وجد نفسه داخل التاكسي حتي وضع قبعته علي وجهه , يكمل نوما قطعه . اما مرافقه الشاب فكانت ثمة اشياء تجول بخاطره . يعرف ان عشرات الشخصيات الاتحادية تنتظرهم في جوف هذه المدينة العريقة . قيادات جاءت من السودان , ومن اماكن شتي , ومعهم مئات الطلاب تدفقوا من بلاد اوربية . من رومانيا , المجر,روسيا , من لندن وحتي الهند والباكستان. كانوا جميعا علي موعد مع صاحبه, يحملون مقترحاتهم وتطلعاتهم واشواقهم وايضا احتياجاتهم . ثمة مؤتمر كبير يخاطبه هذا الرجل الذي بجانبه صباح الغد , العاشر من يناير٨٢. السائق يسأل عن وجهتهم والاجابه بلا تردد فندق ( الملك ميناس ). وهناك إستقبلهم مدير الفندق بترحاب اعتاده الضيف الكبير. بعد دقائق معدودة كانا في الجناح ٢٠٢ . جلس الي حافلة السرير وطلب من مرافقه الشاب ان يتصل بمنزل (عصام ) ليطمئن علي وصول الجميع , ولكنه يريد ان يري خاله الاستاذ احمد خير أولا وباسرع ما يمكن, والذي كان قد وصل من الخرطوم الليلة الماضية بناء علي رسالة عاجلة منه . كان في مرات عديدة يطلب من خاله ان يلقاه في باريس او جدة واحيانا كثيرة لندن . كان احمد خير يلبي النداء من غير تعجل , ولكنه في هذه المرة شعر بشئ يدفعه ليكون في الموعد المحدد . طلب من صاحبه ان ياتيه قبل كل ذلك ببعض الطعام . انها المرة الاولي التي يطلب فيها طعاما . كل الذين عاشوا معه يعرفون قدرته علي البقاء اياما بلا طعام . لا يطلبه ابدا . ولكن اذا وجده امامه , اكل منه بنهم . اذكر انني رافقته لزيارة المرحوم الصادق ابوعاقلة وقد جاء ( لندن ) مستشفيا . اتصل بالدكتور ابراهيم مصطفي ( رحمه الله ) وكان مساعدا للدكتور مجدي يعقوب جراح القلب المشهور وطلب منه ان يوافيه بفندق (لندن ديرى) لمعاينة الصادق . كان المفروض ان نتعشى مع بعض اصدقائه القادمين من الخرطوم , فوصلناهم عند الثانية صباحا , ووجدناهما ومعهما السيدان , عز الدين السيد وعثمان عبد الرحمن يعقوب . جاءت المائدة العامرة بكل اصناف الطعام ولكن صاحبنا لم يأكل الا من صنف واحد . وكانت تلك عادته : ان يأكل من الذي يليه . خرج صاحبه مهرولا ولم يصدق ماسمع .عاد بعد دقائق يحمل شطائرالشاورما . نقر علي الباب يطلب الاذن بالدخول , ولم يجبه احد . وعاد النقر, ولكن بلا رد . كان بكامل زيهه . الجاكت والصديري وربطة العنق المحلولة عند أعلي الياقة . كانت عادته الا يكمل ربطة العنق عند اعلي الياقة . وهو كذلك منذ ايام (اللاوزغلي ) وفندق الكونتيننتال عند ميدان الاوبرا . ايام مواصلة الليل بالنهار استعدادا لمؤتمر الخرطوم . وفي استراحة الجزيرة ينام علي عنقريب مقطوعة حباله , في غرفة الغفير , وهو يومذاك وزيرمالية السودان . ايام السهر حتي الخامسة صباحا في الوزارة , بين الملفات والقرارات والكل نيام . ربطة العنق محلولة ونظراته الي اعلي في تحدي لا يعرف الانكسار, وسبحان الدائم الذي لا يموت . لم يكن مرافقه ( احمد ) ليستبين ماحدث , ويستوعب ما جري . كانت عقارب الساعة تشير الي الخامسة وعشرة دقائق مساء ، اهتزت الاسلاك وانتقل الخبر الي كل مكان .
ومثل ما لم يكن ( حسين الهندي ) رجلا عاديا كان رحيله الفاجع كذلك . فى مسجد مولاى محمد بالعاصمة الليبية طرابلس كانت الصلاة علي جثمانه . تحدث رجال كانوا يعرفونه . غاصوا معه في قلب الشدائد. تحدث عمر الحامدي الامين العام لمؤتمر الشعب العربي , وتحدث عبد الله الزهمول محافظ طرابلس وسارت المدينة في موكب حزين تودع الراحل حتي المطار. وفي بغداد كانت الصلاة بمسجد كربلاء. انه يوم عطلة بالعاصمة العراقية ولكن الالاف خرجوا لوداع رجل سمعوه يقول في التلفزيون , عند اندلاع الحرب العراقية الايرانية : نحن مع العراق في خندق واحد . نحن معه قاتلون ومقتلون .
كان الخميس 13 يناير 82 يوما حزينا في تاريخ الخرطوم حين دفن جثمان الراحل الي جوار والده ببري الشريف . ولم تزل بعض احداث ذلك اليوم محفورة في الذاكرة. تلك المسرحية التي اخرجها جهاز امن الدولة المايوى , حين اشترط علي الحكومة العراقية وصول الطائرة العسكرية التي حملت الجثمان عند الثالثة فجرالخميس , بينما اشاعوا وصولها ظهرالجمعه , وجاءوا بالجثمان الي بري عند الثالثة فجرا , والناس اكثرهم نيام . حجزوا المرافقين له بمكاتب الامن ومنهم احمد خير ومحجوب الماحي ومصطفي وقيع الله وصديق الهندى وسراج عباس كنين وفتح الرحمن البدوي . تعرضوا للاستجواب بلا رحمة , دون اعتبار للحالة النفسية التي كانوا عليها . لن انسي هتافات ( سيد ابو علي ) المدويه بمبادئ حسين التي لن تموت , بحياة الديمقراطية والحرية . وقد تم اعتقاله بعد التشييع . كما لن انسي الخطاب القوي الذي ارتجله العم محجوب الماحي وكذلك الخطاب القوى للدكتور احمد السيد حمد وهو يقف علي عتبة ( القبة ) والجثمان علي الاعناق, في شجاعة وقوة , متحدثا عن الراحل معزيا الامة السودانية فى فقده .
كانت حياة الشريف احداثا متراصة بعضها يكمل بعضا . كانت له صولات وجولات مع ثوار الكنغو في الستينات . دخل الغابات الاستوائية مع اعوان الثائر الافريقي ( باتريس لوممبا ) . وفي بيروت , رغم الصداقات التي ربطته برجال الحكم والمال هناك , ورغم الحياة المترفه التي كان يعيشها اصدقاؤه بمنتديات بيروت , وصالونات الادب والسياسية في الروشة و ابوحمدون وعالية , الا انه وجد فرصة لمساعدة ثوار الجزائر حين كانت ( بيروت ) جسرا للتواصل , وايام النضال الشرس والمد الثورى ضد الفرنسيين . ولعل المغفور له , الرئيس الجزائري ( عبد العزيز بوتفليقة ) وكان اصغر المناضلين التسعة الذين خرجوا للجبل وفجروا الكفاح المسلح كنواة لجبهة التحرير الجزائرية مطلع الستينات , لم تنقطع صلاته بصديقه الشريف حسين , الذي لم يبخل علي الثوار بالمال والسلاح . ولكن الخطر الحقيقي بدأ يرمي شباكه حول الشريف ليلة 25 مايو 1969 , يوم ان تأمرت قوي كثيرة , داخلية وخارجية علي السودان . كانوا يبحثون عنه في كل مكان . بيانات الراديو والتلفزيون. مراقبة لجميع المداخل والمخارج والمعابر. ظهر ان الامر اكبر من القبض علي رجل سياسي كان وزيرا للمالية ونائبا برلمانيا عن دائرة الحوش . كان اكبر من ذلك بكثير, وكان إختفاءه وبقاؤه, حيا , امرا جللا لكثيرين كانت مايو ثمرة لمؤامراتهم واجتماعاتهم في الظلام . كان قلقهم له ما يبرره , فالذين ايدوا مايو وباركوها قبل ان يستجم الضباط المنفذون لها ويجف عرقهم , هم الذين خططوا لها خلف الستار. ولكن ( الحسين ) تجاوز كل الفخاخ المنصوبة له , وكانت ارادة الله اكبر. وظل الشريف تحت المجهز لثلاثة عشر عاما , تعرض فيها للموت مرات . بعضها فى احراش (اثيوبيا ) عند (الردوك ) , واخريات عند اطراف الصحراء الليبية , وهو علي ظهر سيارة (جيب ) يجوب بها الوهاد والغفار, من (اجدابيا ) جنوبا مرورا بواحات ( جالو ) و ( أوجله ) . مئات الاميال من الرمال المتحركة يسير فيها المرء اياما فلا يري عبر السيوف الرملية الخطرة ,ولا يسمع غير العواصف والرياح . كانت ايامه فى ( الكفره ) وما حولها عالما قائما بذاته . يقضيها مفترشا الارض . يأكل مايأكله مرافقوه الشجعان امثال ( ابوبكر سويلم) ، و(ابراهيم ابو مليم ), وغيرهم من الذين تركوا اسرهم واطفالهم في طرابلس و بنغازي , وامضوا سنوات بين فيافي الصحراء الكبري, يدربون ويساعدون اخوانهم من اجل القضية السودانية. اشتد الخطر علي الشريف يوم عبر الحدود الي الحبشة , وكل اجهزة الانقلاب تتعقبه . عاد الي الجزيرة ابا لنجدة الامام الهادى . و مرة اخري عبر الحدود للحصول علي السلاح , ولما علم باستشهاد الامام الهادي , تحرك حتي وصل جدة وقابل المغفور له الملك فيصل , وأخذ يعمل مع اخرين (الانصار وجبهة الميثاق الاسلامى ) لتكوين الجبهة الوطنية ضد النظام , بينما جندت مايو ابرع رجال امنها لمتابعة ومعرفة اخباره وتحركاته . فهاهو احدهم اصبح ملازما للسفارة السودانية في تونس حين كانت العلاقات مقطوعة مع طرابلس , ولعله نفسه الذي كان بمدينة ( جدة ) حين كان الشريف يعود الي السعودية كثيرا . اما في لندن فحدث ولا حرج . كانت سفارة السودان في ميدان ( سان جميس ) تعج بعملاء الامن الخارجي التابع لجهاز امن الدولة. كانت للشريف اجهزته المضادة التي ترصد هؤلاء وتعرف مخططاتهم . كان نظام مايو في حيرة من امره , رغم الرقابة اللصيقة علي الشريف واعوانه في الداخل والخارج . كانت احاديث الرجل تفيض باسرار النظام وخبايا لايعرفها الا من هم حول نميري والذي كان يرد علي الشريف بشتمه في خطبه العامة . استطاع الشريف ان يمتلك مجلة الدستور التي تصدر فى لندن ويشتريها من الصحفي اللبناني ( علي بلوط ) . كانت مجلة معروفة واسعة الانتشار وفر لها الشريف احدث المطابع وامهر الكتاب والمراسلين علي راسهم الاستاذ (خلدون الشعمة ) رئيسا للتحرير و ( بيير عقل ) مدير مكتبها في باريس وغيرهم . كان الشريف غالبا مايكتب الافتتاحية بنفسه . ومن خلال الدستور وبمساعدة طاقم متخصص كان الشريف وفريق خاص يعاونه , يجهزون الملفات عن مفساد النظام . عن الخراب الاقتصادي والعمولات .عن الدمار الاجتماعي الذي طفح كيله . صدر ملف ( الفساد ) وبعده (الملف الاسود ) ثم ( الانهيار ) لم يكتفي الشريف بالدستور فكانت له احاديث اسبوعية في صحف ومجلات المهجر , مثل ( الوطن العربي ) و( التضامن ) و( الكفاح العربي ) و (جريدة العرب الدولية ) وغيرها كان يتحدث الي اذاعات (لندن ) و ( مونت كارلو ) واذاعة ( صوت الوطن العربي ) التي اطلق عليها الرئيس السادات اذاعة نصف الليل وكان مديرها حين ذاك صديقا حميما للشريف حسين وهو المرحوم ابراهيم البشاري, والذي اصبح بعد صفاء العلاقات بين ليبيا ومصر , سفيرا لطرابلس بالقاهرة ومندوبا لها بالجامعة العربية .

كانت مجلة الدستور تصل الخرطوم اسبوعيا بالطائرة البريطانية في حاويات , ( تركنات ) , مغطاة في اعلي بمجعون اسنان ( سيجنال ) الذي يحبه السودانيون وكذلك بعض الملابس المشتراة من اسواق ( شبربوش ) , ويتم تخليص الحاويات بسرعة بمساعدة بعض رجال الامن الاتحاديين بمطار الخرطوم . اذكر منهم الاخ العزيز بابكر عبدالجبار والذى كان يساعد فى اخراج الحاويات من المطار . ويبدا التوزيع عبر شبكات متخصصة في سرعة وسرية واتقان .ولعل الاخوة (الحضراب) وفى مقدمتهم الاخ الحاج عمر حضرة وحسن حضره ومجموعتهم , كانوا يتولون امر الاستلام والتوزيع ضمن مهامهم الصعبة الاخرى فى تلك الفترة الحرجة من تاريخ النضال الاتحادى ضد سلطة مايو . كان كثير من رجال النظام في الوزارات المختلفة يجدون مجلة الدستور داخل مكاتبهم في الصباح . كانت المعلومات عن السلبيات تصل الشريف بانتظام عن طريق اشخاص من امن مايو يتعاونون معه . بعضهم اصحاب رتب عالية , هم الان خارج الخدمة , ولكنهم فخورون بتعاونهم مع رجل وطني في قامة الشريف حسين . كان بعض رجال النظام علي اتصال بالشريف . يسلكون طرقا مختلفة حتي لاينكشف امر مقابلتهم له . احيانا يكون اللقاء في عواصم غير مطروقة . واذكر ان احد معاوني نميري ، مازال حي يرزق , تم ترتيب لقاء له مع الشريف بمدينة ميلانو الايطالية , وكان المسئول اياه يزورها لحضور مؤتمر دولي . وجاء الشريف بالقطار من روما . تحرك عند منتصف الليل ووصل ( ميلانو ) في الصباح . وتم اللقاء في نفس اليوم علي دعوة للغداء في فيلا مليونير اثيوبي من اصدقاء الشريف , يحمل الجنسية الايطالية ومقيم هناك منذ مدة طويلة . وبعد اللقاء والمغادرة , ظل الشريف قلقا علي الرجل فقد كان كشف امره يعرضه لبطش النظام , ولكن الامر مر بسلام . وعلي العكس تماما كانت هناك شخصيات مايوية علي المستوي العالي تقابل الشريف في وضح النهار ودون اي تحفظ او خوف . كانت لهذه الشخصيات صلات صداقه وثيقة مع الشريف رغم اختلاف وجهات النظر .ومن هذه الشخصيات علي سبيل المثال , السيد عز الدين السيد الذي كان ما ان يصل ( لندن ) وينزل بفندق ( شيرشل ) الشهير , حتي يلتقيه الشريف ويبقي معه لساعات . اما الفريق عمر الطيب فكان اتصاله المباشر بالشريف يتم بحسبانه رئيس جهاز الامن , وقد كرس جل وقته لابطال مفعول الشريف وجره الي مصالحة مع النظام , وقد فشل في المسعيين . ومن الوسائل الاعلامية التي كانت تصل بها رسالة الشريف للجماهير ( الكاست ) الذي يتم تسجيله وارسال نسخة منه , ويتم طبع المئات منها بالداخل وتوزيعها , ثم شرائط ( الفيديو ) التي يشاهد فيها الشريف وهو يتحدث صوت وصورة . كما كان الحج موسما اعلاميا قويا , تاتيه القيادات الاتحادية الرفيعة والوسيطة من مدن السودان المختلفة للتفاكر والتشاور وفق ترتيبات مسبقة . وهكذا اخذ الشريف في بناء معارضة قوية ضد النظام المايوي رغم خروج شركائه بالجبهة الوطنية ومشاركتهم للنظام وانخراطهم في مؤسساته وفق رؤيتهم , فكان اضراب السكة حديد الشهير, واضراب المزارعين واضراب المحاسبين . وتحمل الاتحاديون تنكيل النظام بهم وتشريدهم ومراقبتهم وكانوا علي يقين من سقوط النظام مهما طال الزمن . الذين عرفوا الشريف يذكرون قدرته علي التحمل , فهو يبقي جالسا احيانا علي كرسي لعدة ايام دون نوم او اكل . لا يعرف البروتوكلات والتعالي علي الناس وهو قد يجلس مستمعا ساعات طويلة لمزارع قادم من الجزيرة , تاركا موعدا هاما محدد مع وزير أو اي شخصية اخري .
كان انتماءه وخلقه ومأكله ومشربه اقرب الي الطبقات الشعبية السودانية وهو الذي عاش مع ابناء الطبقات العليا في العالم العربي . تعلم في كلية فكتوريا وهى يومذاك المكان المفضل لتعليم ابناء الملوك والامراء والاعيان . وكان صديقا حميما للكثيرين منهم. يتحدث الانجليزية بطلاقة والفرنسية بلهجة الصالونات الفخمة , فاذا تحدث اليك حسبته جاء من الريف لتوه في بساطة ورقته وادبه . وان جلس ليأكل تراه يغوص باصابعه في العصيدة والملاح , وقد سال الايدام علي سترته وكمه وقميصه . كان ( حسين ) لا يسمع نصائح اطباءه ويكره ان يذهب اليهم . وكان طبيبه الخاص البروفيسور ( سايمون ) يحاول اصطياده لمتابعة حالته , ولكنه لايجد الي ذلك سبيلا . وجاء صيف عام 1981م . لندن كعادتها تمتلئ بالسودانيين وكان السفر الي هناك متيسرا والسفارة البريطانية بالخرطوم تعطي تاشيرة الدخول دون تعقيدات . الكل يريد ان يري ويلتقى الشريف . بعضهم اصدقاء وبعضهم اعوان وزملاء في الحزب وقيادات جاءت بمواعيد مرتبة . وغيرهم يطلبون مساعدته في امور علاجهم ودراسة ابناءهم . كان الصيف عنده موسما للتعب والسهر المتواصل . وفجاة اختفي عن لندن لمدة اسبوع او يزيد . كان الاختفاء يعني السفر الي خارج الجزر البريطانية . ربما بغداد او باريس او الدار البيضاء . لا احد يجزم ولكن علي غير عادته , لم يكن الامر كذلك كان غيابه يعني القلق عليه من الذين يعملون معه , واكثرهم قلقا الذين هم فى الدائرة القريبة منه . كنت احبس نفسي داخل شقتي الصغيرة بضاحية (ارليز كورت ) . قلبي يحدثني ان ثمة امر يحدث ولكن ماهو ؟ . ورن الهاتف . كنا نعمل كفريق عمل واحد , رغم التكليف بمهام مختلفة احيانا . رن جرس الهاتف . جاءني صوته واضحا قاطعا بلا مقدمات . انه الدكتور جلال الدقير . الشريف يريد ان يراك قلت : متي ؟ قال : الان . وخلال نصف ساعة كنت معه في عربتة المازدا الزرقاء . لم نتبادل الحديث طيلة الطريق لم اساله ولم يشاء ان يفصح . ودخلنا مستشفي ( الاميرة جريس ) . انه الطابق العاشرفى ذاك المستشفى اللندنى الشهير . كانت الغرفة تبدو كأنها للعناية المركزة , ولكن لم تكن كذلك . او انني لم اتبين الامر في لحظته . كان تفكيري مشلولا. رايت ( حسين ) يرقد منهكا , و ظهر كمن زال عنه التعب , ولكن بقى اثره . كأنه خرج من معركة انتصر فيها بعد ان استهلكت قواه . واخرجني من شرودى , صوته الذي جاء قويا بلا تعب او وهن . هو صوت الشريف حسين في احسن حالاته . قال لنا انه سوف يغادر المستشفي بعد يوم او اثنين وان الحج علي الابواب . واخذ في اصدار التعليمات , تذاكر للسفر ، تاشيرات جوازات , قوائم من قيادات حزبيه للتحرك من السودان . خرجنا من المستشفى . وفى الطريق حدثني جلال عن ازمة قلبية شديدة تعرض لها , ولكنه تجاوزها بفضل روحه المعنوية العالية وقدرته على التحمل وبإرادة المولى سبحانه وتعالى. كانت حجة للوداع . ولعل الذين التقوا به هناك يذكرون الايام الخوالى فى تلك الديار المباركة . يذكرونه وهو يسابق الزمن .استقبال ووداع . مناقشات ومداولات من بعد صلاة العشاء الى نداء الفجر. تلك ايام محفورة فى الذاكرة . لعل بعض الاشقاء واذكر , منهم صديق الهندى و مضوى والسمانى الوسيلة والباقر احمد عبدالله وفتح الرحمن البدوى , وغيرهم من بقية العقد الفريد , يذكرون تلك الايام وهم يتحلقون حول الحسين , يضعون اللمسات الأخيرة لمؤتمر الحزب الذى كان المقرر له العاشر من يناير ١٩٨٢ . وما ان انتهى الحج وانفض جمعه , حتي اصابته نوبة قلبية اخري ,اكثر قوة من سابقتها , وتجاوزها بعد فترة من المعاناة والتعب قضاه فى ضيافة بعض اصدقائه فى المدينة المنورة . سافر الي الاردن بدعوة من العاهل الاردني الملك الراحل حسين . كان عليه ان يجرى بعض التحاليل الطبية هناك ثم يعود بعد مؤتمر اثينا ليمضى فترة علاج ونقاهة . قضى فى عمان يومين وغادرها الي اثينا ليلحق بالمؤتمر الذي دعي ورتب له . قيادات اتحادية , كوادر حزبية , شباب, جاءوا جميعا للقائه , اوراق عمل وبرامج عن مستقبل الحركة الاتحادية كانت في انتظار انطلاقة البداية .كان هو حاديها وحامل مشعلها , ولكنه رحل بعد وصوله الي فندق ( الملك مينا ) بدقائق ولم يلتقي بأحد .
………………………………………………

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x