الدرديري محمد احمد يكتب : عربان الشتات ومشروع اعادة توطينهم في السودان(1)

الدرديري محمد احمد يكتب : عربان الشتات ومشروع اعادة توطينهم في السودان(1)

في اكتوبر من العام الماضي اختتمت رسالة مفتوحة للسفير الامريكي بالقول “ارجو ان تكون قد فهمت يا سعادة السفير اننا نلعب ’شّدت‘ ومن ثم لسنا بحاجة اصلا لَحكَم كرة قدم أمريكية”. وقلت في ذلك المقال “انظر يا سعادة السفير في عدِد من مات من السودانيين في حروبنا التي تطاولت لثلاثة عقود، والتي استخدمت فيها اسلحة القرن العشرين الآلية، وقارنه بعدد من ماتوا في الحرب الاهلية الامريكية التي دارت رحاها لأربع سنوات فقط وبأسلحة القرن التاسع عشر الأقل فتكاً”. واضفت “ولأننا نواجه بعضنا بعضا بيد واحدة ورجل واحدة فإننا لم نفقد من الضحايا في التغيير الاخير (ابريل 2019) ما كان يرجوه اعداءنا”. ما كان ذلك القول الذي عابه البعض، ممن يقفون اليوم في خانة الدعم السريع، الا لأنني كنت أرى تحت الرماد وميض نار وأخشى ان يكون لها ضرام. فقد كنت موقنا ان هناك من يقودنا لحرب ضارية لا تبقي ولا تذر. وقد اعربت في فقر ٍة أخرى من ذلك المقال عن مخاوفي من اندلاع الحرب تلميحا لا تصريحا. فالتلميح في خطاب موجه لدبلوماسي ابلغ من التصريح. وذلك بأن اوردت مقطعا من اهزوجة يرددها غلاة البيض الامريكان يقولون فيها: “هناك حرب لابد من خوضها في هذه البلاد، ضد هؤلاء الذين تجرأوا كثيرا”. بالطبع يشير غلاة البيض بعبارة “هذه البلاد” لبلادهم أمريكا. غير انني قصدت من ايراد تلك الشطرة ان اشير الى بلاد الواق واق هذه. فأهل هذه البلاد العجيبة “قد تجرأوا كثيرا” في نظر امريكا
خصوصا والغرب عموما. وأصروا على خياراتهم المعلومة ومواقفهم المشهودة التي لا يرضى عنها الغرب، وآخرها رفضهم للاتفاق الإطاري. وليت ان مخاوفي وهواجسي قد ذهبت ادراج الرياح.
غير انه لإبدال “شدت” بكرة القدم الامريكية، كان لابد من ان يستقدم اللعيبة من خارج الحدود ممن لم يعرفوا “شدت” او يتشربوا حميميتها. فكانت البغية هي عربان الشتات. ولهؤلاء العربان قصة طويلة لابد من الالمام بطرف منها. اذ لم يسمع الكثيرون ان بالنيجر او مالي عربا الا بعد هذه الحرب.
اخصص هذا الجزء الاول من المقال لتسليط الضوء على هوية هؤلاء العربان
والمشروع الذي كان وراء جلبهم من مضاربهم البعيدة الى عاصمة بلادنا فيعيثون فيها فسادا. اما الجزء الثاني فيؤسس لأطروحة لقراءة غزو العربان قراءة صحيحة تجعلنا نمنع الظل الطويل
الذي يخلفه هذا الغزو وراءه من ان يسد الافق.
في عام ٤٤١ للهجرة (١٠٥٠ ميلادية) اوقف المعز بن باديس الدعاء في منابر
القيروان للخليفة الفاطمي المستنصر وأسقط عبارة “حي على خير العمل” من الآذان. كان ذلك إيذانا بإعلان خروج بلاده (تونس) على الدولة الفاطمية بالقاهرة وولائها للخليفة العباسي ببغداد، بل انسلاخها عن المذهب الاسماعيلي الشيعي واتباعها المذهب المالكي السني. وبحسب ما اورد ابن الأثير استشار الخليفة الفاطمي وزيره “فأشار عليه بأن يسرح له العرب من بني هلال وبني جشم الذين بالصعيد (أي صعيد مصر) وان يتقدم لهم بالإصطناع ويستميل مشايخهم بالعطاء وتولية اعمال افريقية (أي تونس) وتقليدهم امرها”. كما تلاحظ لم يشر الوزير للخليفة بإرسال جيش نظامي، وإنما طلب منه ان يوكل الأمر لهؤلاء البدو لما عرفوا به من شدة المراس، “وربما الاغارة على الضواحي وافساد السابلة” كما ذكر ابن خلدون. وكانوا قد أحدثوا العديد من الاضطرابات في صعيد مصر الذي وفدوا اليه بآخرة. فأراد الوزير باستشارته تلك ان يصطاد عصفورين بحجر فيتخلص من هؤلاء الاعراب ويؤدب ابن باديس. وبقية القصة تحكيها السيرة الهلالية التي روت لنا كيف قتل أبوزيد الهلالي الخليفة الزناتي. لم يذكر ابن الاثير كل القبائل التي شملتها تلك الهجرة. اذ دخل في ركاب الهجرة الهلالية لأفريقيا خلق كثير،منهم بنو سليم وجهينة وجذام وبنو قيس. وما كل من شارك في تلك الهجرة كان مقيما بصعيد مصر، وانما عَبر بعضهم برزخ سيناء قادمين من بوادي نجد والحجاز مباشرة. وما كل من أتى مع “تغريبة” بني هلال، أي توجههم غربا بغية الغزو، كان قد جاء بقصد الغزو والإغارة، وإنما دخلت بعض القبائل افريقيا بحثا عن المرعى. فبينما قصدت غالبية قبائل “التغريبة” تونس متيامنةً سيف البحر الابيض المتوسط، فان بعضا منها سار في ركاب هؤلاء حينا، مستأمنا على ابله، ثم فارقهم وصعد جنوبا محاذيا الضفة الشرقية لنهر النيل ليستقر به المقام عند الأتبراوي وبادية البطانة ومناطق رفاعة والصعيد، وجل هؤلاء من جهينة. هذا بينما حاذى البعض الآخر الضفة الغربية للنيل ميمما نحو الجنوب. عند الشلال الرابع انقسمت هذه المجموعة الأخيرة لفريقين. جماعة اتجهت تلقاء الغرب متتبعة الواحات المنتشرة على الخط الفاصل بين الصحراء الكبرى وحزام السافانا ليستقر. بها المقام في موريتانيا، واغلب هؤلاء من القيسيين. بينما توغل القسم الاخر الى الجنوب الغربي متتبعا وادي الملك في ظعن متمهل استمر لأربعة قرون ليلقوا عصا التسيار عند حوض بحيرة تشاد وشمالي الكاميرون ونيجيريا، وهؤلاء من جذام.
من يعنوننا في هذا المقال هم بعض من قصدوا الى تونس وشهدوا موقعة
القيروان ودكوا حصونها. فبعد المعركة قفل اغلب بنو سليم ومعهم بطون من بني هلال راجعين لديارهم في صعيد مصر ونجد والعراق، راضين بما حصلوا عليه من ذهب كثير حكى التاريخ كيف ادى وروده اسواق القاهرة ودمشق وبغداد الى اختلال كبير في الاسعار. بينما توغل القيسيون وغيرهم غربا فانتشروا في بلاد المغرب العربي ودخلوا الاندلس فكانوا عونا للدولة المرابطية. اما جهينة فقد قصدت الى حوض بحيرة تشاد لتبلغه في حوالي ١٤٦٠ للميلاد، اي بعد ظعن وإنتجاع استمر لأربعمائة عام. وبعد حادثة “شقة الناقة” او “ناقة العريقي”، المشهورة في ميثولوجيا هذه القبائل، والتي وقعت نحوا من عام ١٥٦٠ للميلاد انفتل جزء من هذه القبائل نحو الجنوب الشرقي ليدخل الحزام المطير في دارفور وكردفان بينما بقي آخرون في حوض بحيرة تشاد او يمموا مع نهر شاري غربا تلقاء ما يعرف الان بالنيجر ومالي وما ورائها. هؤلاء هم من يعنيهم هذا المقال بعبارة “عربان الشتات.”
لم يعتني عالمنا العربي بدراسة هذه الهجرات او عرب الشتات الذين نتجوا عنها.
واقتصرت الدراسات القليلة حول هذا الموضوع على التنقيب في بطون الكتب عما اورده ابن الاثير الذي عاش بعد قرن من تلك الاحداث وكان بعيدا عن مسرحها منشغلا بمرافقة صلاح الدين الايوبي والتأريخ لغزواته. او لسان الدين الخطيب الذي جاء بعد ابن الاثير بقرن آخر وكان ايضا بعيدا بالأندلس يتسقط فيها ما يصله من خبر. او المقريزي الذي، وان كان مقامه بالقاهرة، الا انه عاش بعد ثلاثة قرون من تلك الوقائع. او ابن خلدون الذي فصلته عن الهجرة الهلالية نحوا من اربعمائة سنة. ولعل أبرز دراسة عربية معاصرة لهذه الحقبة هي تلك التي قام بها الشاعر المصري الكبير عبدالرحمن الأبنودي لتوثيق “السيرة الهلالية” التي تعتبر أهم الملاحم الشعبية العربية. اذ قام برحلة بدأت في صعيد مصر في مطلع الستينات لتشمل لاحقا تونس والسودان، ثم عربان الشتات في تشاد ونيجيريا. وقد دون تلك السيرة على مدى ثلاثين عاما في خمسة مجلدات، ثم قدمها في إلقاء مسموع عبر الإذاعة المصرية له مقدمة مغناة اداها النجم محمد منير. لكنه على سبق هذه الدراسة وقيمتها التوثيقية العالية الا انها كانت معنية بتلك السيرة
الأدبية وحدها. اما واقع المجتمعات التي نتجت عن تلك الملحمة فهو ما لم تلق له بالا.
غير ان اليهود هم من اولوا هذه الهجرات اهتماما اوسع ودرسوها بالطرق العلمية الحديثة ليقفوا على واقع وخصائص شعوب الشتات العربي ويتبينوا أنجع السبل للتعامل معها وكيفية توظيفها لخدمة اغراضهم. فأنفقوا في ذلك الملايين. ونتجت عن جهدهم مكتبة تضم المئات من الدراسات التي اتبعت في اعدادها أفضل مناهج علم الاجناس Anthropology وتقنيات الحمض النووي .DNA وبينما أتيح قسم من هذه الدراسات للدارسين عبر محركات البحث الأكاديمي بالأنترنت، فهناك ما هو مصنف تحت درجات السرية العالية. واذكر من
الدراسات المفتوحة دراسة لتوماس ليفي وأوغستين هول نشرت عام ٢٠٠٢ في مجلة Journal of Anthropological Archeology . عقدت تلك الدراسة مقارنة بين هجرة اليهود الى ارض كنعان حوالي ١١٠٠-١٣٠٠ قبل الميلاد وهجرة اعراب جذام الى شمالي الكاميرون ونيجيريا خلال
الفترة من ١٠٥٠ -١٣٩٠ ميلادية، ممن يعرفون حاليا باسم “عرب الشُوا” Shuwa Arabs. الاطروحة الاساسية التي تثبتها تلك الدراسة هي أن الهجرات تمثل قوى فعالة في تكوين هويات الشعوب. فالهجرة الرئيسة لشعب ما تترسخ في “الذاكرة الجمعية” لذلك الشعب وتشكل شخصيته. فمثلما ان رحلة التيه عبر صحراء سيناء قد شكلت هوية الإسرائيليين فان الهجرة لأربعة قرون بمحاذاة حوض النيل ثم وادي الملك هي العامل الحاسم في تكوين هوية عرب الشوا بشمال الكاميرون. وبالرغم من تباعد النموذجين موضوع الدراسة تم التوصل الي انه في الحالتين كانت للهجرة الطويلة ذات الاثار على تشكيل هوية الشعبين.
دخل عربان الشتات لأول مرة في معادلات السياسة الدولية عام ٢٠٠٣ حين تم استخدام قسم منهم لإشعال فتنة دارفور. ثم توسع نطاق استخدامهم في عملية عاصفة الحزم التي أطلقت في مارس ٢٠١٥. حيث تم استجلابهم الى اليمن تحت مظلة الدعم السريع ليكسروا شوكة الحوثيين. واخيرا أتي بهم لاجتياح الخرطوم. وفي هذه المرة يتضمن السيناريو جعل السودان وطنا بديلا لهؤلاء العربان لتغيير التركيبة السكانية فيه على نحو يخلخل المجتمع السوداني التقليدي. ومشروع إعادة توطين عربان الشتات بالسودان جزء من مشروع كبير يهدف لإبدال النخبة السياسية في بلاد الواق واق بنخبة علمانية المزاج. نخبة تهيئ لتجاوز الثقافة التي ولدت لاءات الخرطوم الثلاث، تلك اللاءات التي لا تزال اسرائيل تعتبرها شوكة في خاصرتها. بل نخبة تتجاوز ما يسميه البعض “سودان ٥٦”. وإذا كان تغيير النخبة السياسية هو مشروع الغرب كله، تقوده امريكا وتقرها عليه اوروبا وتحركه إسرائيل من وراء ستار، فإن لفرنسا مشروعا خاصا بها ترجو تحقيقه بإعادة توطين عربان الشتات بالسودان. فهي ترغب في التخلص من هذه المجموعات العرقية التي ترفض الاندماج في مجتمعاتها المحلية في الامبراطورية الفرنسية بغرب افريقيا وتنشط في تهريب البشر والاتجار في الاسلحة الصغيرة وترتبط بمنظمات ارهابية من شاكلة بوكو حرام وبعصابات اجرامية عابرة للحدود. خلال العامين الاخيرين دخل تنفيذ هذه العملية مراحل متقدمة، وتولاه ميدانيا نفر مرتبطون بالأمارات ومن خلالها بفرنسا واسرائيل. اذ تولى الاشراف العام على تنفيذ المخطط محمد صالح النظيف وزير خارجية تشاد الحالي، الذي ينحدر من ماهرية تشاد. وقد كُلف في مارس ٢٠٢١ (بدعم معلن من فرنسا، وبتدبير خفي من الموساد ولا شك) بشغل منصب “الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في منطقة غرب أفريقيا ومنطقة الساحل”، ذلك ليدير كامل المسرح على اتساعه ببشره وبُجره. وتزامن تكليف النظيف مع انتخاب محمد بازوم رئيسا للنيجر في ابريل ٢٠٢١، ايضا بترحيب معلن من فرنسا. هذا رغما عن ان الأقلية العربية في النيجر لا تكاد تبلغ ١٪ من سكان تلك البلاد. بالطبع توافق هذا كله مع تولي حميدتي منصب نائب الرئيس في السودان. ولا ننسى ان حميدتي، وليس البرهان، هو الذي تلقى دعوةً للسفر للنيجر لحضور حفل تنصيب بازوم. ما ان سلس القياد لهذا الثالوث حتى تكثفت الدعاية في تشاد والنيجر ومالي لتوطين عربان الشتات بالسودان. وتقبل العربان الفكرة خاصة انها جاءت مصحوبة بضمان ان من يجندوا سينتدبون لليمن. فذلك امر تبينوا جدواه، اذ تغيرت حيوات من عادوا من اليمن وتحققت احلامهم. وهكذا انطلق المشروع حثيثا. فما هي الا أشهر قليلة حتى تم نشر ماكينات اصدار البطاقة القومية السودانية وجواز السفر السوداني شرقي النيجر وجنوبي ليبيا. وبالطبع ربطت هذه الماكينات عبر الاقمار الصناعية بشبكة السجل المدني في الخرطوم. فاذا صدر الرقم الوطني المعين من موقع بالنيجر او الكفرة لا يعاد اصداره مرة أخرى بالسودان، بل يبدو وكأنه قد صدر من البينية او مجمع الخدمات بالسجانة او غير ذلك من المواقع. وهكذا حصلت اعداد لا يعلمها الا الله على الرقم الوطني السوداني وكذلك جواز السفر. ثم بدأت الخطوة التالية والتي هي ادخال عشرات الآلاف
من هؤلاء الشبان “السودانيين” الى موطنهم الجديد ونقلهم مباشرة لمعسكرات تدريب قوات الدعم السريع بزعم اعدادهم للالتحاق بالفرق المقاتلة في اليمن.
هؤلاء هم عربان الشتات. وهذه هي المؤامرة التي اتت بهم لدورنا في الخرطوم ومدننا وقرانا في دارفور وكردفان ومكنتهم من ارتكاب الفظائع المعلومة التي يندي لها الجبين. غير ان هذه المؤامرة لم تكتمل فصولا بعد، فهي ترمي لتوطينهم في السودان وليس لمجرد اجتياح القيروان. “فهناك حرب لابد من خوضها في هذه البلاد، ضد هؤلاء الذين تجرأوا كثيرا”. في الجزء الثاني من هذا المقال نطرح رؤيتنا عن كيف يكسب شعبنا هذه الحرب، بعد ان كسب جيشه معركة الخرطوم. فماذا نحن فاعلون لنحول دون خلخلة مجتمعنا ولنمنع تكرار غزو عربان
الشتات ديارنا وتوطنهم فيها .
٢٦ يونيو ٢٠٢٣.

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x