إسلاميون، نعم

إسلاميون، نعم

في حوار مع غربيين، ما هي جدوى التعامل مع “إسلام مزيف” خالي من الشريعة؟ وتبني جماعات تقود حربا علمانية فاشلة على المجتمع؟

مكي المغربي

في نقاش حول الشريعة الاسلامية قلت لباحثين في مركز دراسات مرموق، أنتم ترفضون العقوبة على البدن مثل الجلد والقطع والإعدام باعتبارها شرائع قديمة وحشية ودينية ثم تنفذونها في النهاية بطريقة أبشع وبأيدي المواطنين انفسهم، قالوا لي كيف؟
قلت لهم ما هو بديل معاقبة البدن عندكم؟ هو السجن ومعاقبة السمعة والتشهير ويتبع ذلك “الإئتمان المالي”، وهذا قد يجعل بروفيسور بسبب “شجار في حانة مع شرطي” غير قادر على العمل ولو (جرسون) أو حتى عامل نظافة دورات مياه، كلما ذهب إلى العمل، طالع الموظف (رقم الضمان الإجتماعي) الخاص به والسجل الملحق ورفض التعامل معه.
سيخرج ويعيش مشردا، وقد التقيت من قبل مثل هذه الحالة، يحمل كتابا في الفلسفة الاغريقية وهو رث الثياب معدم الأمل تماما.
ماذا سيحدث لشاب في فورة شبابه لو مر بهذا الأمر؟! في بلد تنتشر فيها المخدرات والأسلحة؟ سينتهي به الأمر مدمن أو مروج؟ سيقتل الناس أو يقتل نفسه، أو تقتله الشرطة، وينفذ العقوبة الوحشية على بدنه أو بدن غيره في النهاية.
هنالك 700 جريمة قتل في شيكاغو وحدها خلال العام، وألفين وخمسمائة إصابة نارية مباشرة تنتهي كثير منها بالأعاقة أو بتر الأعضاء، هذا في شيكاغو فقط،
هنالك 45 ألف حالة انتحار في أمريكا خلال العام، 120 يوميا، نعم “عشرة دستة” من الجثث في اليوم، هذه كلها جرائم وبشاعة مرعبة لمن يسمع بها ناهيك عمن تقع عليه، وهذا غير قتل التلاميذ في المدارس جماعيا، ولذلك نحتاح أن ننقاش؛ هل فعلا نجح النظام الجنائي العلماني الحديث -في أمريكا نموذجا- في الإفلات مما يراه “وحشية” يتهم بها الشريعة الاسلامية؟! ومن هنا نحتاج لمناقشة عادلة غير متحاملة لمنطق الشرائع الدينية، طالما النتائج الحضارية الحديثة “بشعة للغاية”.
بالنسبة لنا نحن المسلمين، هنالك منطق يثبت أن الرحمة والانسانية في “تطبيق الشريعة الاسلامية” وأن البشاعة والوحشية في الغائها وتعطيلها. سنشرح هذا المنطق بالنقاش المباشر حول الجانب العقابي في الشريعة الاسلامية وهو “الحدود” والتي يتوهم البعض أنها السبب في تخفيض مستوى الفكر الإسلامي والحقيقة المذهلة أن العكس هو الصحيح!
قد يتحرج بعض المثقفين المسلمين من مناقشة (مجرد مناقشة!) الإيمان بالشريعة الاسلامية والحدود ويعتبرون الحديث عن عقوبات مثل قطع يد السارق والقطع من خلاف للناهب بالسلاح معركة خاسرة حضاريا يجب تفاديها والهروب منها إلى مفاهيم كلية عن قيم الإسلام ودروس من السيرة وأناشيد أخلاقية وقصص للأطفال. حتى الشريعة يحذرونك من النقاش حول الحدود فيها ويطلبون منك الاهتمام بآية توزيع الزكاة، وحق المرأة في الخلع، وكأن الشريعة فيها أوجه جميلة يجب عرضها وأخرى قبيحة يجب اخفاءها وزجر من يناقشها بالعبارة الشهيرة (الشريعة ليست الحدود). هذا التوجه تضليلي وقد شغل الناس باسلام مزيف خالي من الشريعة، وهو غير موجود، ولو وجد فهو ليس بإسلام، مجرد أفكار بين نخب لا تقف على قدمين في المجتمعات المسلمة، والتعامل معها اضاعة زمن، لم يستفد الغربيون شيئا من هذه النسخ المزيفة للإسلام ولم يقنعوا المسلمين باتباعها.
تاهت المشاريع البديلة للإسلام ورفضت شعبيا وجرت المجتمعات إلى انقسامات وتصدعات.
المؤمنون بالشريعة يعتقدون أن الحدود رحمة وتخفيف وحضارة ورقي.
لفتح الأذهان لهذا النقاش قبل التعمق فيه؛ هل الطب والجراحة بشاعة أم هي في أعلى سلم التقدم العلمي وحماية حياة الانسان؟ هل يعقل أن يقال أن اختصاصي العلاج الطبيعي أرقى من اختصاصي الجراحة لأن الأول يدلك الجسم ويربت عليه والثاني يجرحه ويفصده؟!
من الأساس، من قال أن الألم مطلقا هو “بشاعة” و “وحشية”؟ هنالك آلام الولادة التي لولاها لما جئنا للدنيا، ولما إنساب النسل الإنساني، وحققت الأنثى أمومتها وسعادتها، حتى في حياتنا اليومية هنالك آلام التمارين الرياضية الشاقة التي تبني الجسم وتحفظه من البدانة وأمراض الشرايين والضغط والسكري.
بهذه الحجة ينحسر قليلا التلازم الذهني بين الألم والشر، فالتخلص من الشر قد يتطلب مقدارا الألم، وجلب الخير قد يتطلب مقدارا من الألم.
سنناقش الحديث عن البشاعة المدعاة على عقوبات الحدود، لكن دعونا ننقاش البشاعة ذاتها، وهي متوفرة جدا في العالم بل هي الواقع الأكيد حولنا مهما تقدم سكان الأرض علميا وحضاريا، سواء بالطبيعة والكوارث أوبصنع البشر مثل الأوبئة والحروب والارهاب، و”مكافحة الارهاب” التي صارت أشد فتكا من الارهاب نفسه.
البشاعة لم يصنعها الإسلام ولم تفتعلها الشريعة الاسلامية بل جائت الشريعة لدرئها وتخفيفها على خلق الله.
البشاعات والكوارث التي تحدث للبشر على الأرض في المفهوم الإيماني وحسب آيات القرآن الكريم هي عقاب رباني (وما أصابتكم من مصيبة فمن أنفسكم ويعفو عن كثير) و (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) وقد جائت الشريعة لإيقافه وتخفيفه، وها هنا أقوى الحجج في المنطق الديني في الدفاع عن “الشريعة الاسلامية” وتحديدا “الحدود” أنها تخفيف ورحمة بالمجتمع من (البشاعات الكبرى) المستمرة بسبب الجرائم والذنوب والخطايا المستشرية في البشر وذلك بتقييد وتضييق العقاب والعذاب وحصره وتصويبه نحو أفراد الجناة وإقامة الحدود على الخطاة في جرائم محددة ووفق قواعد إثبات محددة ليدرأ ذلك عقابا ربانيا غليظا يشمل المجتمع.
فالله لا يعاقب خلقه مرتين، إذا انزلوا العقاب كما أمر فيمن أمر كشف عنهم العقاب العام.
وإذا رفضوا شرع الله وجحدوه ونكصوا عنه، نزل عليهم العقاب العام وتكون النتائج الكثير من الوفيات وتتناثر الجثث والأشلاء والجراح، وأمامكم البتر والشلل وتلف الأعضاء يحدث في كل اعصار وكل حرب وجرائم متسلسلة وكل وباء، والعدد كبير ومهول، وهو شامل للبريء والمسيء.
هل هذا من صنع الشريعة؟ لا، بل الشريعة هي الترياق المفيد والوحيد ضده وذلك بأن يثبت الخلق -إمتثالا لأمر الله- جرائم بعينها منصوص عليها على أفراد منهم ويحكمون عليهم -بعد استيفاء كل مراحل الاستئناف والمراجعة- العقاب المنصوص عليه.
فالعقاب في “الحدود” من الله وليس البشر والتنفيذ من البشر عبر سلطة منتخبة عادلة (وها هنا شرح لاحق).
على الجانب المقابل، ترفض الفلسفة الجنائية الحديثة في عصرنا العقاب العلني المباشر على بدن المجرم لأنها ترى أن حكمة العقوبة هي الردع الخاص وليس الردع العام، والتهذيب وليس التعنيف.
لكن المؤمن بالإسلام وبالشريعة يؤمن بأن الحكمة في العقوبة جزء من إيمانه بالعقوبة نفسها، ومحاولة تغيير الحكمة، هي تغيير للعقوبة وتغيير للاسلام نفسه.
يؤمن المسلم بأن الحدود هي أصلا عقاب من خالق البشر يجريه بأيدي البشر ولا حق لهم في تغييره ولا تبديله البتة .. الآيات .. (ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون) أو (الفاسقون) أو (الظالمون) حسب درجة التغيير والتبديل والرفض للدين، وليس بالضرورة أن يكون كفرا في كل الأحوال، ولكن المحصلة واحدة، وهي أن رفض الشريعة رفض للإسلام، ويضاف الي ذلك -في حالة العلمانية الإقصائية- رفض لمجرد حرية التعبير عن الإسلام للمسلمين في بلاد المسلمين.
الشريعة الاسلامية في الدول الاسلامية خيار ديموقراطي وحضاري وإنساني تطبقه سلطة عادلة.
في مقال مقبل نشرح مفردة (سلطة منتخبة عادلة)، لأن من تعظيم أحكام الله حمايتها من التطبيق الظالم والمتعسف، وهذا مطلب مهم للنقاش، ولكنه ابتذل كثيرا بالطعن في التطبيق والتجربة ليس بغرض تصحيح التطبيق إنما للطعن في الإيمان بالشريعة ذاتها وقهر الأغلبية بمواثيق أجنبية رافضة للشريعة.
العلمانيون في الغرب الذين اتهموا أربعة أو ستة حدود “عقوبات إسلامية” بالبشاعة، وسلطوا على الدول الاسلامية ذوي الأجندات يعادون الشريعة الاسلامية، بينما هم يعيشون في الغرب في “البشاعة” ويقودون حاليا حربا في أوكرانيا تتناثر معها آلاف الجثث وتتقطع إلى أشلاء، ويصابون بجوائح وأوبئة فتاكة، ولذلك أعتقد من المنطقي أن نراجع اتهامات الغرب للإسلام بالمنطق والأفضل له أن يستمع للمناقشة المنطقية.
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid02bCkr44ZsTZ3jDRDXqvUyQjLic2sTMiJnXd1d7fwufannJKtD5YeY91aYP8LSNWZJl&id=100077928604697&mibextid=Nif5oz

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x