نذر التدخل الأجنبي ومستقبل السودان

نذر التدخل الأجنبي ومستقبل السودان


بقلم :جمال عبدالعال خوجلي

بين يدي التقدم العسكري الكبير للجيش السوداني في نهايات الأسبوع الثامن للحرب خرج نائب القائد العام للقوات المسلحة الفريق الكباشي وسط جنوده مصرحا بان الجيش السوداني يقاتل ضد غزو اجنبي يمثل الدعم السريع إحدى أدواته. كرر الكباشي بان الجيش يقود معركة الكرامة ضد المرتزقة. من بعد الكباشي صرح مبعوث الرئاسة السودانية في تركيا بأن لديهم معلومات دامغة ومؤكدة بان هناك قوة خارجية تدعم التمرد. لاحقا كرر البرهان بنفسه التنديد بمعاونة المرتزقة الأجانب للمليشيات المتمردة.
جاءت هذه التصريحات بعد أن وضحت خلال الشهرين الأولين من عمر الحرب عدة وعتاد وتجهيزات قوات الدعم السريع الضخمة التي أعدت للمعركة، ووضح تماما أن الأمر مدبر من قبل فترة طويلة قد تعود حتى لما قبل ثورة 2019 م. كل التجهيزات والإمدادات أتت من الخارج خاصة من الإمارات وروسيا والذان يتلقيان من السودان كذلك شحنات الذهب المقدرة التي تغذي أسواقها والتي لا تمر عبر القنوات الرسمية للتصدير، بل وتصدر مباشرة بطائرات تلك الدول من مواقع يسيطر عليه الدعم السريع دون رقيب ولا عتيد من الدولة، وما خفي أعظم. ما ظهر من التجهيزات والإمدادات للدعم السريع فاق ما توفر للجيش، لتحقيق هدف الإنقضاض على الدولة السودانية ومن ثم المخطط الإقليمي.
هذه الأوضاع المأساوية بدأت منذ التوقيع على الوثيقة الدستورية المشئومة التي قننت للشراكة بين مجموعة الحرية والتغيير من جهة والقوات المسلحة والدعم السريع من جهة أخرى، لم تكتفي اصواتا من مجموعة الحرية والتغيير مدعومة من الخارج، بتقاسم السلطة مع طرفي التسلح في السودان، بل نادت بضرورة تفكيك الجيش تماما وإعادة تشكيله من جديد. توقيع قائد الدعم السريع على الوثيقة الدستورية عن القوات المسلحة كان مؤشرا أوليا لرغبة مجموعات اليسار في تفكيك الجيش وليكون الدعم السريع نواة للمكون العسكري الجديد للسودان. تفكيك الجيش هو ذات السيناريو المفروض من الخارج، الذي تم في العراق بعد إسقاط صدام حسين، ثم تكرر في ليبيا واستبدل بمليشيات نصب عليها حفتر قائدا وسمى نفسه قائد الجيش الوطني الليبي. كذلك تم تفكيك وتصفية الجيش اليمني بواسطة المليشيات المدعومة من الخارج. هكذا سقطت الدولة في ليبيا واليمن وسيطرت المليشيات.
التدخل الخارجي في ثورة السودان :
بين يدي توسع التظاهرات الشعبية ضد الإنقاذ، تمددت الأيادي الخارجية تغذية وتوجيها للثورة وتشكيلا لما بعدها. التدخل الخليجي كان واضحا ومؤثرا حتى مع الأحزاب السياسية الوطنية واليسارية. مصالح الخارج الإقليمية تضاربت بين توجه لهيمنة الحاكم العسكري على الحكم كما تجربة السيسي في مصر والمدعومة خليجيا وإن إختلف خيار دعم الخارج بين قائد الجيش وقائد الدعم السريع. دعم الخارج الإقليمي للجيش أضعف الحكومة الإنتقالية التي أتي بها الخارج وساهم ضعف شخصية حمدوك في إخفاق تحقيق الأجندة الخارجية التي طفت على الشعارات والخطط والبرامج لحكومة الثورة.
الخارج الآخر شرقا وغربا تعالت أجندته مع بزوغ شمس الثورة، فقبيل إندلاع التظاهرات الشعبية، إستقبلت روسيا والتي تبحث عن موضع قدم لها في قلب أفريقيا، إستقبلت الرئيس المخلوع البشير والذي أعلن هناك عن تخصيصه لقاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر لحماية نظامه. لم تسعف الثورة لا البشير و لا الروس لتحقيق ذلك خلال عهد الانقاذ، وسارعت روسيا محاولة بناء القاعدة خلال الفترة الانتقالية، لكن التدخل الامريكي الحاد حال دون ذلك. أما الغرب الاوربي والامريكي فلم يخفي سعيه لاعادة تشكيل المجتمع السوداني ما بعد الإنقاذ، ورسمت معالم الليبرالية الجديدة سمات مطلوبة للقيم الجديدة، هذا فضلا عن السعي للتحكم في ثروات السودان وموقعه الجيوسياسي.
المسعى الرابح بين هؤلاء كان من راهن على تمدد الدعم السريع وتنصيبه قوة وعتادا، مقابل تراجع القوات المسلحة ووقف تجنيد قوات المشاة بها في الوقت الذي تضاعفت فيه اعداد المنضوين تحت الدعم السريع من مختلف انحاء السودان. فتحت لهم معسكرات التدريب المميزة وتدفق العتاد العسكري كما ونوعا من الخارج خاصة عبر الامارات، وتولى خبراء عسكريون التدريب بالمعسكرات. لم يلقي قائد الجيش البرهان بالا ولا اذنا لمن نبهوا لهذا الوضع الشاذ الذي بدأه عمر البشير تصفية لمعارضيه وحماية لنفسه، وبعض قادة الجيش تحدث صراحة وعلنا أن ما فعله البشير لم يصف معارضيه ولا حمي تظامه، بل أضعف الجيش. مضى البرهان يراهن على علاقة باسرائيل تبقيه رئيسا للسلطة منذ لقاءه بنتنياهو في يوغندا في ابريل 2020 م، وتسابق على كسب ود اسرائيل رغم تطمينات الوسيط الخليجي، وفتحت المؤسسات العسكرية وعلى رأسها التصنيع الحربي لوفود اسرائيل التي وفدت على السودان تباعا، بل وسمى البرهان مندوبه لذلك بعناية. فطن الدعم السريع لمخطط البرهان وسرعان ما حطت قيادة الدعم السريع في اسرائيل وإصطحبت قيادة الموساد لمنشآت القوات المسلحة المطلوب كشفها. هكذا تشكل التحالف بين آل دقلو – إسرائيل والإمارات، ليضيف بعدا سياسيا ودعما خارجيا لإمبراطورية المال التي شكلها الذهب المنهوب والمصدر الى روسيا. إنتشرت فاغنر حراسة لمناطق الذهب وتمددت في المنطقة وفق المخطط الروسي.
الصراع القبلي والتحالفات الإقليمية:
من سوءات الإنقاذ الكبري أنها مكنت للصراع القبلي خاصة في غرب السودان، وسعي عمر البشير وجهاز أمنه حفاظا عبى كرسي السلطة، لمواجهة حركات الكفاح في درافور بالمجموعات القبلية العربية التي سلحها وقدم لها كل عون مطلوب، ولم يتردد هؤلاء في إبادة أهل دارفور خاصة قبائل الفور والمساليت والزغاوة. تولت مجموعات حرس الحدود والجنجويد والدعم السريع مختلف الجرائم ضد الإنسانية: القتل والتعذيب والإغتضاب والتهجير القسري طوال أحد عشر عاما. تمدد الدعم السريع عبر قبائل الإقليم وتدفق جنودها من عدد من الدول المجاورة تجمع بينهم عصبية القبيلة والعرق، ينظرون لتمدد وجودهم الراهن في قيادة المنطقة خاصة النيجر ومالي، وتاريخ تسلمهم السلطة في تشاد أيام حسين حبري ( 1982-1990 م)، وتحالفهم مع الروس الذين إخترقوا الوجود الاستعماري الفرنسي التاريخي للمنطقة ونصبوا حكومات موالية لهم خاصة في افريقيا الوسطى. هكذا فتحت الإنقاذ الآمال والابواب لهؤلاء لإعادة تشكيل المنطقة على أساس قبلي عنصري جديد بسند خارجي ومصالح تتجاوز السودان، وتكون جيش الدعم السريع من مختلف ابناء قبائلهم في هذه الدول وسعى حميدتي لتجنيس مئات الآلاف منهم لتسهل حركة دخولهم ولاحقا إستلام السلطة.
هكذا مضت التشكيلات القبلية مستفيدة من تاريخ أسود إنقلب على موروث السودان المتصالح المتعافي من التمييز القبلي والجهوي، تخطط للإنقلاب على الدولة عبر مكون موازي للقوات المسلحة، له من العلاقات الخارجية والنفوذ الإقتصادي ما يفوق الدولة.
عمدت المصالح الإقليمية مستفيدة من أياديها في أجهزة الأمن الإنقاذ، عمدت الى إضعاف المكونات السياسية المختلفة بالسودان خاصة الأحزاب الوطنية التقليدية، فأعملت فيها الإنشقاقات والتخاصم داخلها وفيما بينها، ليفشل التوافق السياسي الوطني على الإنتقال الديمقراطي، وفي المقابل إرتفعت عقيرة أحزاب صغيرة بسند الخارج مستأسدة لتفتح المجال للتدخل الاجنبي الكثيف في الشأن السوداني. هكذا أعد المسرح بعناية وترتيب للمؤامرة والفصل الأخير بمحاصرة عشرات آلاف الجنود المدججين بالسلاح الفتاك للقصر الجمهوري والقيادة العامة ومطار الخرطوم وما حوله شرقا وغربا. التقديرات أن الأمر لن يكلف أكثر من بضع ساعات حتى تستلم أسرة دقلو السلطة والحكم في السودان بعد أن تقضي تماما على الجيش السوداني قيادة أولا ومن ثم بعثرة من تبقى من جنود ومواقع.
فشل المخطط في خطوته الأخيره، وتبدل الحال بدخول سلاح الطيران ما قطع إمدادات الجنود وإتصالاتهم وعزل قيادتهم، تبعثرت المليشيات وتحولنا لحرب مدن تمتد فيها يد الجيش الطولى لتبسط الامن المبعثر. حفظ الله السودان من شر مستطير إن نجح المخطط، تحتاج البلاد لحكم مدني شامل منظم للإنتقال يملأ فراغ الصراع العسكري ويمضي للإستقرار.
مواصلة العملية السياسية
إنتهى الامر الى حرب واسعة وشاملة في قلب الخرطوم التي تدمرت، فقدنا الاحباب والارواح العزيزة ونزح الملايين، ومع تصاعد العنف تراجعت آمال وأشواق إنعقدت على عملية سياسية تقود للإنتقال والتحول الديمقراطي المدني الكامل. قامت القوات المسلحة بواجبها الدستوري والمهني عسكريا حفظا لأمن البلد وإستقرارها.
أمام هذا الوضع هناك خياران:

الأول التعويل فقط على الخيار العسكري:
هذا سيطيل أمد الحرب ودوران السودان في دوامة العنف والقتل ويمدد التدخل الأجنبي لتغذيتها خاصة وأن جيوبا في الإقليم تتربص بإستقرار السودان وأمنه.

الثاني : التوجه في مسعى موازي وفورا لمواصلة العملية السياسية لتشكيل حكومة إنتقالية مدنية بتراض سياسي وإتفاق مجتمعي.
التحول الديمقراطي والانتقال للحكم المدني هو أولى أوليات المجتمع السوداني فضلا عن أنه يفرض الأجندة الوطنية المدنية وليست العسكرية، ويقدم الترياق المضاد لاي نزاع عسكري لاحق. الإتفاق المدني يفرض وقف العنف والحرب والإقتتال. الأوفق للوضع الراهن أن ندفع جميعا لمواصلة العملية السياسية، ونجعلها الجند الأساسي للمساعي والمبادرات وعلى طاولة المفاوضات.
الأمثل والأحكم أن تتراضى كل الأطراف على مواصلة العملية السياسية على الأسس التالية:
1- ضرورة التوصل لإيقاف اطلاق نار دائم يوقف الحرب بشكل مستدام ويسكت صوت البندقية في بلادنا الحبيبة، استقرار السودان يكون عبر جيش مهني واحد وموحد يراعي التعددية السودانية يضمن الدمج والتسريح وإستيعاب مختلف المقاتلين وضمان حصر السلاح في يد القوات المسلحة.
2- تشكيل حكومة مدنية تعمل على تخفيف وطأة المعاناة الانسانية الواقعة على ابناء شعبنا خاصة العالقين في مناطق الحرب والمعابر، والنازحين واللاجئين، والعمل على استعادة عمل الدولة والخدمات الاساسية وتوفير العون الانساني.
3- العمل علي إستكمال مسار التحول المدني الديمقراطي الذي رفعت راياته ثورة ديسمبر المجيدة علي أُسس تضمن مشاركة جميع السودانين دون إقصاء وإستصحاب لتجارب وخبرات السودانين العديدة، مع العزم وتحمل المسئولية الوطنية بمنع انزلاق بلادنا باتجاه اي تقسيم جهوي او قبلي ومنع اي نزاعات او حروب بين مواطني بلادنا الحبيبة ومكافحة خطاب الكراهية، هذه البلاد لنا جميعاً وستسعنا جميعاً.
4- دعوة مختلف القوى السياسية والمجتمعية لتجاوز الإختلافات ووضع مصلحة الوطن والمواطن أولا، سيما وأن المجتمع بأسره دفع غاليا ثمن المحاور والإختلاف. التفاعل الإيجابي من كافة الأحزاب السياسية وتشكيلات المجتمع المدني هو المدخل لتكوين صف مدني يحقق الإنتقال الديمقراطي. الصف المدني يتطلب الإتفاق على حكومة مدنية إنتقالية تمثل الطيف السياسي والمجتمعي والكفاءات الوطنية تركز على ترتيب أوضاع ما بعد الحرب وترتيبات الإنتخابات الحرة النزيهة بما تحتاجه من تفاصيل. التوافق والتسامح الوطني يتطلب من مختلف القوى الوطنية القفز على المواقف المسبقة الإقصائية لتحقيق مسار سياسي إنتقالي بين مختلف الأحزاب والكتل السياسية ومكونات الإتفاقات. تفتح مختلف الأدبيات ومخرجات اللقاءات للاتفاق الجماعي دون إبطاء وبلا تاخير، وبما يضمن الدعم السياسي الفاعل للحكومة المدنية التي ستتمخض عن الاتفاق السياسي الشامل.
5- أفرزت الحرب واقعا جديدا وإستقطابا في إقليمنا وجوارنا والمجتمع الإقليمي والدولي، لابد من تمييز المواقف، والتوجه لداعمي إيقاف الحرب والتنسيق فيما بينهم لحشد الدعم لاعادة البناء والتعمير وتحقيق السلام والإستقرار. تحتاج الحكومة المدنية الإنتقالية لتعزيز صلتها بالعالم الخارجي وفق مصالح السودان وما يحقيق إستقراره وتطلعاته.

سيمضي التدخل الأجنبي والمؤامرة الإقليمية في إتجاه تعزيز مسار النزاع العسكري سواء في العاصمة الخرطوم، أو أن ينسحب مؤقتا الى خارجها ليعيد ترتيب أوراق المؤامرة والمخطط، وغالبا الى دارفور العزيزة، ليبسط عليها سيطرته أولا ثم يعيد الكرة مرة أخرى في وسط البلاد. إن تأسست حكومة مدنية وطنية إنتقالية سينحشد الشعب بأسره شرقا وغربا ضد المؤامرة ويتحقق شعار جيش واحد شعب واحد. وقتها فقط يمكن ان نسقط المؤامرة والتدخل الأجنبي الغاشم.
الأمل أن تنتهي حروبنا جميعا وأن نمضي بوحدتنا لمسيرة السلام المتطلعة لتعمير المجتمع ونهضته، لا ننظر الا لمصلحة الوطن وعزته وتقدمه.

12 يونيو 2023 م

admin

تدوينات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Read also x